د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
(1)
** حين كنا صغارًا وعينا شخوصًا بسيماهم وأسمائهم مختلفين عن الإيقاع النفسي العام بصمتٍ أو صوتٍ أو حركات، وربما تجنبنا واحدًا أو اثنين منهم خشية أذاهم، وبعد حين أيقنا أنه المرض النفسي بتدرجاته التي تبتدئُ من العزلة وقد تنتهي بالجنون، وبينهما بيتُ أهله فشارع بلدته ثم مستشفى وطنه.
** وفي عالم الإبداع عجبنا أن ينهي صاحب «الشيخ والبحر» حياته ببندقية، وكيف لشاعرٍ من أرضنا أن يمتلئ اعتراضًا وإعراضًا فيبقى «على مر الجديدين في جوى»، وتكررت الاستفهامات مع «إسماعيل أدهم وتيسير سبول وخليل حاوي ونجيب سرور وأروى صالح وإسماعيل المهدوي ويوكيو ميشيما» وسواهم.
** ازدادت مآسي المشاهير دون أن يدخل فيها المشتبه بأسباب رحيلهم كعبدالحكيم عامر وأشرف مروان وسعاد حسني وجمال حمدان وعمر سليمان وآخرين، ولم تشع حكايات العامة، ثم لم نعد ندري عن مكتئب أو مضطرب أو حتى منتحر؛ إذ ماذا نضع وماذا ندع، وماذا ندرس وما الذي يندرس؟!
(2)
** من ينام قلقًا يستيقظ موجعَ القلب والبدن؛ فلن يستطيع مهموم أن يبيت خاليًا، وحزينٌ أن يُرى مبتسمًا، وموجوعٌ أن يظلَّ مشرقًا، ولأن البشر يفترقون في مدى استجابتهم لعواصف الحياة فإن المظاهر قد تُخفي والملامح قد تخدع دون أن يرتبط القلق والأرق بمناحٍ شخصيةٍ تمس معاش المرء المعتاد وحياته اليومية كي يمكن رصدُ دائها ووصف دوائها.
** لعله الوهم أو الوهن أو ربما الهوى دون ظلالٍ من حقٍ أو حقيقة، وفي زمننا هذا انتصر الضيق على فسحة الفرج، وسرت العدوى حتى صارت صبوحَ الأغلبية وغبوقهم، وقد عشنا زمنًا أقرب إلى الشظف المادي دون أن نيأس أو نبتئس إلا قليلاً، أما مع الترف فقد تعاظم البؤس وتغلب اليأس وامتد إلى أجيالٍ لا يُعوزها نسبٌ ولا نشب.
** تكاثرت العيادات النفسية وتعدد القارئون والراقمون والراقون، ومعهم ازدادت الأوجاع فلوثت العقول والجسوم وحجبت الهواء والصفاء بما يؤكد الحاجة إلى دراسة هذا المتغيِّر المجتمعي الضخم.
** الأبحاث كثيرة في هذا الجانب، وقد سجلت منظمة الصحة العالمية انتحار مليون شخص كل عام بسبب الاكتئاب، وقُدر عدد المكتئبين في المملكة (1436هـ وفق تقارير وزارة الصحة) بخمسة وخمسين ألف حالة مع تفوق نسوي،، وإذ تدور البحوث حول الفقر والمرض والشيخوخة بصفتها أهم مسبباته فإن لوسائط الاتصال الرقمية موقعًا متصدرًا فقد اختصرت الزمن ويسرت المعلومة لكنها ضاعفت القلق والأرق والخوف والإحباط، ولن يكون الحل في كتابٍ ولا موعظة ولا رقية إن لم نعِ أن الاكتئاب مرض ذو انتماءٍ «جيني» لا يختلف عن الأمراض العضوية ولا يجوز الاستتار منه.
(3)
** الفهم يحجب الوهم.