د.عبدالرحمن بن عبدالله الشقير
تمثل الأخلاق أعلى درجات الإنسان التام الذي سعت الأديان، وعلى رأسها دين الإسلام، ونظريات الفلاسفة أن يرسموا طرق الوصول إليها من خلال مصفوفة من قيم الخير، من أهمها قيم الإصلاح والتسامح والعفو، وقد لاحظ عدد من الفلاسفة وعلماء الاجتماع ظاهرة تدني القيم الاجتماعية والأخلاق الفاضلة، لذلك ينادي كثير منهم بضرورة المحافظة على تماسك المجتمع وسلامة أمنه من خلال دعم منظومة القيم. ولذلك انتقد كثير منهم مشروع الحداثة الغربية بسبب تخليها عن كثير من الأخلاق، ومن أبرزهم: الفيلسوف السويسري هانس كونج Hans Kung الذي تفرغ لدراسة الأخلاق. وعالم الاجتماع البولندي زيجمونت باومان في سلسلة كتب، مثل: «الأخلاق في عصر الحداثة السائلة»، و»الأزمنة السائلة: العيش في زمن اللايقين»، و»الحياة السائلة». والمفكر المغربي طه عبدالرحمن من خلال كتبه مثل: «الأخلاق من الدين».
ولا يوجد أفضل من توثيق قصص القيم الواردة في السير الذاتية للشخصيات. ومن أهم مكارم الأخلاق هي قيم العفو، وتتأكد في حالات العفو عن القصاص. وقد كتبت هذه المقالة للفت الانتباه إلى أهمية القيم في حياتنا، والإشادة بالشخصيات التي تمارس دورها الاجتماعي للحفاظ على القيم بأي شكل كان. وسوف تستعرض نموذجًا اجتماعيًا ناجحًا صالحاً للتعميم، وهي قصة عفو عن قصاص وقعت مؤخراً، وتحمل في مضامينها منجمًا من القيم الصلبة في زمن سائل، وهي ليست الأولى في قصص العفو ولن تكون الأخيرة، ولكني توصلت إلى تفاصيل أكثر عنها، وحظيت بنشر إعلامي بعد الانتهاء منها وليس قبل كما كان متبعا في مثل هذه الحالات.
القيم الصلبة: يقصد بالقيم الصلبة: الأخلاق والمروءة وكل فعل نبيل في المجتمع، إذ يرى باومان أن أحد التحولات الجوهرية أنتجت وضعاً جديداً وغير مسبوق لطرق الحياة الفردية، هو انتقال الحداثة من مرحلة الصلابة إلى مرحلة السيولة، فالأشكال الاجتماعية، التي تحدد اختيارات الفرد التي تضمن دوام العادات وأنماط السلوك المقبول، (كالمدرسة والمسجد والأسرة والقرابة...)، لم تعد قادرة، ولا أمل بأن تكون قادرة على الاحتفاظ بشكلها زمناً طويلاً، إذ أنها تتحلل وتنصهر بسرعة تفوق الزمن اللازم لتشكلها.
أهل الصلح: ورد في القرآن الكريم آيات كثيرة تحث على الصلح بين المتخاصمين: {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} (سورة النساء 114). وأهل الصلح هم من يحافظون على المصالح العامة، وليسوا طرفاً في القضية غالباً، وإنما تحتم عليهم المروءة ومنظومة القيم مثل: القرابة، ومسؤوليتهم الاجتماعية، ومكانتهم، وطلب رضا الله تعالى، أن يتدخلوا متسلحين بجاههم ومالهم أو بسابق معروف لهم لدى أهل التسامح.
أهل التسامح: هم أصحاب الحق، وهم أهل الثأر في حال لم تصل القضية للقضاء، وهم أولياء الدم في حال صدر حكم في قضيتهم لصالحهم، ويمكن أن يتنازلوا أو أن ينفذوا الحكم، وهم أهل التسامح في حال عفوهم التام وغير المشروط عن الجاني.
أهل التحريض: هم الذين يسعون بلا كلل ولا ملل إلى إيغال صدر المظلوم على الظالم، وتذكية نار الخلاف بين من وقع بينهم إشكال غير مقصود أو حتى متعمد، ويعمد هؤلاء إلى إبقاء العداوة والضغينة منتشرة في المجتمع، أو إلى «تسليع الدم» من خلال إشعار المتضرر بتأنيب الضمير إذا تسامح أو تنازل عن حقه، أو رغبة منهم في الانتقام من خلال استخدام حق القصاص.
تسليع الدم
لوحظ انتشار ظاهرة المساومة على التنازل في قضايا القصاص، وهو نموذج سيئ متكرر، إذ تبدأ بعض مفاوضات طلب تنازل أولياء الدم عن قاتل ابنهم مقابل مبلغ مادي، ووصلت هذه المبالغ إلى عشرات الملايين من الريالات في بعض الحالات، وهذه الحالات دخيلة على المجتمع، فضلاً عن أنها خالية من الأخلاق، وليست من عاداته وتقاليده، ولم تعرف إلا من سنوات قليلة. وتسببت ظاهرة «تسليع الدم» في كثير من الحالات في احتقان المجتمع منها، بوصفها مؤذية للشعور العام وتحدٍّ لتقاليده.
من شيم العرب الأواخر
لو نظرنا إلى مجتمعنا في الأجيال السابقة، نلحظ أن الرجل العادي يستشعر مسؤوليته تجاه المجتمع المحيط به من أهل وقرابة وأصدقاء، فهم يقضون أوقاتاً طويلة في إصلاح ذات البين، وردم أي هوة يمكن أن تفكك المجتمع، لقد كانوا يمارسون دور الضمير الجمعي الناشئ من الرقابة الذاتية، ومن كان لا يتحمل مسؤولياته يعد إنساناً سلبياً.
وتحفل حياة قبائل البادية، وهي حالة الدراسة في هذه الورقة، بمظاهر العفو والتسامح، ففي كتاب «من شيم العرب» لفهد المارك، أشار إلى نماذج من قصص العفو في لحظات صعبة، وقعت بين أفراد من قبائل جزيرة العرب، وذلك من خلال عرضه لقصص أخلاقية وقعت خلال قرنين . وهي نماذج قليلة من حالات العفو في قضايا الدم الموجبة للقصاص أو الانتقام، وقد وقعت في زمن تسود فيه الأخلاق والمروءة على المال، كما أن مجتمعنا الآن ما يزال يشهد حالات عفو وتسامح كثيرة في قصاص ونزاع.
الواقعة البرلمانية القبلية
اجتمع قبيلة آل عاطف من قحطان في شهر محرم 1440هـ (سبتمبر 2018) بشأن طلب الصلح في قضية دم بين أبناء عمومة، وكان في مقدمة «أهل الصلح» الشيخ ملهّي بن سلامة بن سعيدان، أحد كبار شيوخ قحطان، وانتهى الاجتماع بتنازل أولياء الدم، والعفو عن الجاني لوجه الله تعالى مع التأكيد الصريح برفض أي مبلغ مادي يمكن أن يقدم لهم، فصاروا بذلك من «أهل الإحسان» الذين وصفهم القرآن بقوله: {وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (سورة البقرة 195). فتقدَّم «أهل الصلح» بالشكر لهم والدعاء، وأعلن عن بناء مسجد وقف لله باسم الميت، فحظي بالموافقة الفورية. فانهالت دعوات إقامة الاحتفاء التكريمي وتناول العشاء من بقية «القرابة» لدعوة «أهل الإحسان» لتكريمهم، ولمنح فعلهم الشرعية القبلية، ولتخليد ذكرى هذه اللحظة التاريخية.
تحليل الواقعة
يظهر من هذه القصة المختزلة مجموعة فاعلين ومؤثرين في القيم، وهم: والد الجاني المحكوم على ابنه بالقصاص ويطلب العفو. و»أهل الإحسان» وهو والد المجني عليه وأبناؤه، ويمتلك حق الاقتصاص بقوة الشرع وبضمانة الدولة، والوسيط هو من «أهل الصلح»، وهو طرف محايد، وليس له أي مصالح، ولكنه يمتلك قيمة مسؤوليته الأخلاقية التي تطلبت منه التدخل لمنح المحكوم عليه فرصة للحياة، و»القرابة» وهم مجتمع القرابة الذي حضروا الصلح، ويمتلكون قيمة إعطاء شرعية للموقف وتعزيز طلب الصلح. وهذا المشهد يعد من سلوم القبيلة المتوارثة، ومن تقاليدها الراسخة لحل أي نزاع ينشأ بين أفرادها، ويشترط في أهل الصلح أن تتوفر فيهم قيمة «الثقة»، وأن يصطحب معه وجهاء وأعيان، لضمانة إدارة الموقف.
بعد إتمام مراسم العفو والتسامح زار «أهل الإحسان» و»أهل الصلح» السلطة السياسية، المتمثلة في أمير منطقة الرياض، وذلك من أجل إتمام مراسم العفو رسمياً، ومعروف عن الأمير فيصل بن بندر حرصه الكبير على نشر قيم المروءة والشرف في المجتمع من خلال استقبالاته المتكررة لأهل القيم، وتكريمه لكل من يقوم بعمل أخلاقي في المجتمع، إذ قال في لقائه معهم: «إذا وجد مثلكم وأمثالكم، تسهلت الأمور ومشت في طريقها. ليش؟ لأن الناس يثقون فيكم، أنتبه لهذي، ترى هذي ميزة ما يجب تفقدها، يثقون فيك الطرفين، وهذا المهم»، والتنبه لمفهوم الثقة يعد التقاطة دقيقة وتشخيصا اجتماعيا سليما للموقف، والثقة تدرس اليوم بوصفها من أهم محددات المكانة الاجتماعية والمكاسب الاقتصادية. وكأن الأمير فيصل بن بندر في حديثه هذا يؤكد أهمية محافظة أهل الصلح على ما يتمتعون به من ثقة لدى الطرفين، أسهمت في تحقيق نجاح مسعى الصلح والعفو عن الجاني.
ومن ثم تكتمل دورة حياة الموقف. ويكمن العمل السياسي البرلماني القبلي في القصة أنها تضمنت: مشكلة فعرض فاتفاق فتأييد شعبي، وإقرار سياسي، وهذه أبرز مهام البرلمانات. وهي تمثل المسؤولية الأخلاقية التي ينبغي أن تنتشر في جميع المجالات لتخفيف الضغط على مؤسسات الضبط الاجتماعي.
القيم الصلبة
تميزت هذه القصة بأنها متكاملة الأركان من حيث سلوم القبائل وعاداتهم، وتحمل قيماً صلبة، وقد وقفت على مجموعة من قيم النبل والمروءة التي تضمنتها هذه القصة. فهي: صرخة احتجاج في وجه موجة المزايدات على دماء الموتى، وإحياء لقيم أصيلة راسخة في وجدان القبيلة، ونبذ «سماسرة الدم» و»أهل التحرض» من سلوم القبيلة، وفيها قوة التحمل من أولياء الدم، وهم هنا «أهل الإحسان»، وأظهروا نبلاً في سماحهم، وأن التنازل جاء مصحوباً برفض أي تبرع أو منحة من أحد، وزاد هذا الموقف تميزًا ورفعة بوجود طرح بديل للمال المتمثل في وقف باسم المتوفى متمثل في بناء مسجد، وهي قيمة جمالية تحمل في مضامينها إدماج المجني عليه في القصة، وبقاء اسمه خالداً لا ينسى، وهذا يؤكد على أن القادة هم من يحافظون على سلوم القبيلة، ويعيدون إنتاجها بمظاهر جمالية في وسط أجواء حزينة ومهيبة، ولا يكتفون بالتمسك بالموروث، وأن القرابة تحملوا مسؤولياتهم في سلسلة من أمسيات التكريم لأولياء الدم، ورفعوا من شأن القيم التي أشاعها. وهي من جانب آخر نداء الضمير بالندم لدى ذوي الجاني وامتنانهم لولي الدم. إضافة إلى القيمة الأخلاقية التي منحتها الدولة من خلال إتاحة الفرصة للقبيلة أن تقوم بأدوار الصلح والإحسان في المجتمع، ودعمها لهم.
أخيراً
من حيث المبدأ، إن جميع إجراءات التقاضي هي شأن قانوني بحت، ويخضع تطبيقه لسلطة الدولة، وذلك من أجل حفظ النظام العام، وللحد من تنامي ظاهرة الانتقام أو حل المشكلات بالسلاح المفضي للقتل. ومن هذا المبدأ ندرك أن الدولة أتاحت حيزاً معنوياً لأعراف القبيلة أن تحل مشكلات أفرادها وفق الأعراف والسلوم المتوارثة. ومن ثم فهو حيز من يهدف إلى تكريم القبيلة وحفظ قيمها الصلبة، أما في حال تنامي ظاهرة تسليع الدم، أو في حال عجز القبيلة عن تزويد أفرادها بقيم احترام النظام العام ومنعهم من التجرؤ على حريات الآخرين، فإن الدولة ستجد نفسها أما ظاهرة بحاجة إلى تنظيم جديد، ومن ثم احتكار تطبيق النظام وفرض سيادة القانون.
وما أحوجنا اليوم، أكثر من أي وقت مضى، إلى الحفاظ على الأخلاق والقيم الصلبة. فالمجتمع السعودي قطع أشواطاً طويلة في الحداثة في مجالات التعليم وفي صيانة مؤسسة الأسرة والقرابة، وهذه أهم منابع تزويد الأفراد بالقيم الصلبة في الأزمنة السائلة.