د. جاسر الحربش
رحم الله الراحل جمال خاشقجي وغفر له، فقد مات ميتة لا يجوز ارتكابها على كائن من كان. رغم شناعة ما جرى، علينا أن نفصل بين الجريمة التي ارتكبت بحقه ومنها من مثل به وننتظر تحقيق العدالة غير منقوصة على كل من ارتكب الجريمة من ناحية، ومن ناحية أخرى بين محاولات تزيين تاريخ المغدور من قبل بعض أصدقائه القدامى وإطلاق الكلام الاعتذاري المقروء والمسموع فيتلقفه الساقط واللاقط، وكأن الراحل - غفر الله له- لم يكن متعاوناً مع قطر والجزيرة وأكاديمية التغيير بإشراف الإسرائيلي عوني بشارة، ومع المشروع العثماني الذي ينكر على السعودية دولة وشعباً حقها وقدرتها على حماية الأراضي المقدسة، ومع الواشنطن بوست والنيويورك تايمز وهما من أهم الدعامات الإعلامية للاحتلال الإسرائيلي والتنكيل بالفلسطينيين.
ما هو المغزى من هذه المقدمة؟ المغزى هو ألا يعير أحد أذنه لغير وطنه. في هذا العصر الملغم بالأطماع الإقليمية والدولية والفتن المذهبية وبتدمير كيانات عربية أساسية، على العاقل ونصف العاقل أن يتمعّن ويفكر ويقارن. إن وجد في الجوار الإقليمي والعربي ما هو أفضل تخطيطاً للمستقبل وأرغد عيشاً وأشمل أمناً من وطنه، حينئذ يتوجَّب عليه استخدام القنوات المتاحة (ولو أنها ليست كثيرة) ليتظلّم ولو عبر ديوان المظالم. المحرم على من يحنق على وطنه لأسباب موضوعية هو أن يتحول إلى ظهير لأطراف أجنبية تستخدمه للتحريض والتفتيت، مثلما حدث في العراق وسوريا ولبنان وليبيا والبحرين ومصر، والعاقل من اتعظ بغيره.
لماذا يحرم ذلك؟ لأنه يفتح الأبواب لعواصف مسمومة تعصف به وبأهله ومجتمعه كهدف نهائي. من يصر رغم معرفته وإدراكه للنتائج المحتملة على استعداء الغرباء على وطنه يعتبر خائناً صريحاً عند كل أمة ودولة وفي كل دين ومذهب وقانون.
عندما يتقلب شخص بين ولاءات متعدِّدة، منها المحلي الذي لا يملك غير الأموال الطائلة والطموح الشخصي المبالغ فيه، ومنها من لا يستر عدوانيته ولا يقدّم أنموذجاً صالحاً لعدالة أفضل وأمن أشمل وعيش أرغد، ثم يهرب هذا الشخص إلى لندن أو باريس أو برلين أو واشنطن أو طهران أو إسطنبول ليساهم من هناك في إيذاء وطنه وأهله، عليه أن يعلم أنه أصبح عدواً يجب الحذر منه واتقاء شره.
أثناء الأيام العصيبة الماضية في إسطنبول طرح علي البعض سؤالاً عن من أصدق أخباره المبثوثة في وسائل الإعلام ومن أكذب. كنت أسأله وأنت من تصدق، أما أنا فلا يمكن أن أصدق قناة الجزيرة المعروف من أتى بها إلى قطر بطواقهما من هيئة الإذاعة البريطانية، ولأي أهداف وبأي شروط، ليجعلها خنجراً مسموماً في دويلة خليجية لا تملك غير أموال الغاز ومحكومة بأمير قفز على أبيه وطرده ليبقى مشرّداً في الخارج قبل أن يموت في قطر، ليتحول إلى مدماك في مشروع الهدم والفوضى وإعادة التركيب في المنطقة العربية. إنني أيضاً لا يمكن أن أصدق الإعلام التركي الذي ينكر على السعوديين قدرتهم وشرعيتهم لحماية المقدسات الإسلامية دون حضور تركي على أرض الجزيرة العربية، كما أنني لا أصدق نيويورك تايمز والواشنطن بوست لأنهما صهيونيتان من الرأس إلى القدم ملكية وطواقم، وتعتبرهما إسرائيل أقوى الدعائم الإعلامية للدفاع عن الاحتلال الصهيوني وتقتيل وتشريد الفلسطينيين وتشويههم أمام العالم كإرهابيين ومعاديين للسامية.
إنني أصدق بلدي مع الاحتفاظ بانتقاد ما لا يعجبني علناً إن أمكن أو عبر القنوات اللا علنية إن تعذَّر العلن. إنني أعرف بالمعايشة والمقارنة والتخطيط للمستقبل أن أوضاعي أفضل بكثير من كل أولئك الذين يخططون لتدميري ومن يخضعون للإملاءات العنصرية في الغرب ولا يجرؤون على الكلام حتى في بيوتهم عن تحيز السياسات الغربية لصالح إسرائيل ضد أوطانهم في الغرب نفسه.
إن كنت بعد كل هذا تعتبرني جباناً أو منافقاً أو مرتزقاً فأنا أعتبرك خائناً معادياً لوطنك في الأقوال والأعمال.