عبده الأسمري
يتأبط الجاهل سذاجته فيمضي مرواغاً كل مسارات «المنطق» ليعلن تصفية حساباته مع كل أطياف المعرفة.. يسير في الحوارات والنقاشات بنظام العاصفة العشوائية التي تأتي على كل شيء وتنثر غبارها على بديهية الأسئلة ومسلّمات الإجابات..
يقضي الجاهل وقتاً في معاقرة السوء وقلب الطاولة على الجميع حتى وإن سقطت عليه.. يثير الاستفزاز ويتمسّك بالخداع ويرتبط بكل ما من شأنه تبديد معالم العقل.
عبر كل الأزمنة.. كان الحمقى والسفهاء أدوات سرية وعلنية أساءت للتاريخ وغيَّرت ملامح السواء وكانت نقاطاً سوداء نثرت إيحاءات السوء على صفحات الحياة وأجهضت مشاريع التنوير والتطوير..
الجاهلون عشوائيون لا يلتزمون بالوقت ولا بالمعاني. فالجهل يحتم عليهم الولوج إلى أعماق ذواتهم «المريضة» والتباري مع مساحات التجادل في كل الاتجاهات بدون تخطيط وبلا ترتيب.
يهرب الجاهل من وميض «المعرفة» فيغادر مساراتها البيضاء لمعاداته للنور الذي يوجهه نحو الفكر الصحيح فيظل هائماً على وجهه يسير بلا مواعيد ودون وعود سوى المكوث في عالمه المثقل بالحماقة.
الجهل جريمة تعتمد على التضليل وتسير في اتجاه معاكس للالتزام في وقت تظل براهين المعرفة هي أدوات القبض على فصول الجهل حتى وإن توارت خلف الخداع الذي يعد جزءاً لا يتجزأ منه.
مر زمن وسيمر ولا يزال الجهل يسوّق في كل المواقع بنظام التجمّد الذهني المعادي للتجديد والمحارب للابتكار.. ستظل بضاعته معروضة في السر كلما زادت إضاءات التنوير.
الجهل يبدأ من طاولات المدارس التي خصصت لوأده.. ويقيم في بيئات «الوظائف» ويستوطن «جلسات المتحاورين» ويستعمر «اختلافات الرؤى».
يمضي الجهل بزبانيته إلى متاهات «العزلة» ويسير بأربابه إلى دهاليز «الانعزال» فيظل الجاهل خصيم الآخرين عدو غيره.. يرسم سواد السوء على بياض السواء.
بيننا جاهلون معروفون بواقعية حواراتهم ونقاشاتهم وتعاملاتهم ووسطنا أيضاً متجاهلون لحقيقة أنفسهم يتمسكون بالنكران ويحاولون صناعة «الوهم» الفكري لتمرير آرائهم مما جعل الحوار لدينا يعاني من أزمة ثقافة وتأزم تعامل.
بيننا جاهلون يلاحقون السخرية لتشكيلها في قوالب بائسة تنم عن «شخصيات مريضة» و»سلوكيات مريبة» تغوص في وحل «السخف» وتتوه في فضاء الفراغ وتتمرَّد وسط دهاليز الضياع..
صنع لدينا الجهل في زمن مضى أزمة عميقة بين الأطياف الثقافية وخلّف بيننا تراشقاً مخيباً للآمال طغى على ساحة الحوار حتى طغت «الشللية» وتمادت «السوقية» وبات نقاش الأضداد جزءاً لا يتجزأ من مشاهد التحاور على الطاولة الواحدة.. فظهرت الانقسامات الفكرية والانحيازات الخاصة وتحوّلت المسارح الحوارية إلى ما يشبه «جولات صراع» فنشأت بيننا أجيال تتشبث بالذاتية وتنحاز للاختلاف.
الجاهلون معادون للمنطقية مضادون للعقلانية يعيشون الوهم في معظم أوقاتهم.. يحيطون أنفسهم بأسوار الرأي الأحادي الفكرة الفردي الاتجاه يقتحمون عوالم غيرهم باستباقية النوايا حتى يعيشوا في عالمهم الخاص المدجج بالتضاد مع الآخر وبالتعالي على أرضية الائتلاف وبالهروب من أفق المجال إلى عمق الجدال.
ولو دققنا في كل الظواهر الاجتماعية السلبية والتفكك الأسري وقضايا الأسر والفشل والجريمة لوجدنا أن الجهل هو «المادة الخام» لتشكيلها وبلورتها وصبها في قالب «واقع مؤلم» يبدّد النسيج الاجتماعي والوئام النفسي.
الجهل مرض العصر الحقيقي الذي يجب أن تنهض أمتنا الإسلامية لمواجهته، فالغرب تفوّقوا لتبديد معالمه كثيراً بالبحث والتحليل والمعرفة والتقدّم والعلم في وقت كان أسلافنا من العباقرة والفلاسفة والعلماء هم الناقلين والمؤسسين الحقيقيين لثورة التقدم التي أنارت عصور الغرب المظلمة..
الجهل ظاهرة خطيرة تتربص بأجيالنا وتحيط بنا وتستولي على عقول بيننا.. فعلى مؤسسات المجتمع وجهات التعليم والتدريب والمنابر أن ترفع مستوى التوعية بخطورته ومواجهته بالحوار والتآلف والمنطق ورصد سلبياته وتثقيف كل الشرائح الاجتماعية بمخاطره ومنع انتشاره والحد من اتساع رقعته.