د.سالم الكتبي
لا يجب أن تُترك الأزمات الكبيرة للهو الصغار والمأجورين والانتهازيين والمتآمرين.. فعندنا تتعلق الأمور بمصالح دول وشعوب يجب أن يتحدث العقلاء، ويجب أن يرتفع صوت العقل، ويتراجع كل من يريد تصفية حسابات شخصية. في أزمة الكاتب السعودي الراحل جمال خاشقجي لا يريد الإعلام المعادي للمملكة نتيجة سوى التي يسعى إلى تحقيقها منذ بداية الأزمة. وهذه النتيجة ليست - بالمناسبة - تشويه سمعة المملكة، والإضرار بمصالحها؛ فهذا هدف يجري العمل عليه ليل نهار قبل بداية الأزمة، وعلى مدار الساعة، ولكن الهدف بمنتهى الصراحة والوضوح هو إزاحة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان عن منصبه!
قد يستغرب البعض هذا الكلام، ولكنها الحقيقة التي يمكن لأي مراقب التوصل إليها من خلال متابعة المحتوى الذي تبثه شاشات قناة «الجزيرة» والقنوات الموالية للنظام القطري وجماعة الإخوان المسلمين الإرهابية. كل سهام هذه القنوات ومذيعيها باتت مصوبة نحو هذا الهدف.
المعنى هنا أن هذه الوسائل لا تستهدف البحث عن الحقيقة، أو أن دموع مذيعيها تذرف على حقوق الإنسان، وإلا لتعاملت مع نتائج التحقيق السعودي في القضية بما تستحق من جدية.
لم تتوصل التحقيقات إلى اتهام مجهولين أو غير ذلك، بل أوردت قائمة بأسماء متهمين يشغلون مناصب قيادية في الاستخبارات السعودية، ولكن هذه الوسائل الإعلامية المعادية تصر على طريقتها، وتواصل العمل لتحقيق هدف محدد بغض النظر عن أي أبعاد أخرى لما تسعى إليه!
هناك فارق كبير بين البحث عن الحقيقة وتحقيق العدالة - وهذا هدف تسعى إليه المملكة نفسها - من ناحية، والنيل من القيادة السعودية ولجم دور المملكة على الصعيد الإقليمي والدولي من ناحية أخرى. ولكن هذا الهدف الأخير هو بالضبط ما يريده أعداء الرياض الذين وجدوا الفرصة في هذه القضية لخلط الأوراق وقلب موازين القوى الإقليمية لمصلحة دول معادية، في مقدمتها إيران.
الحقيقة تقول إن السعودية التي تقود التحالف العربي قد استطاعت التصدي للمشروع التوسعي الإيراني عبر إنهاء المؤامرة التي حاول عملاء نظام الملالي تنفيذها في اليمن، كما باتت السعودية على رأس تحالف عربي، يعمل على ترميم ما تبقى من جسد الأمة العربية، والتصدي للتحديات والتهديدات التي تواجه شعوبها. ولكن هذا الأمر لا يعجب منفذي نظرية الفوضى الخلاقة وداعمي الفوضى والاضطرابات في المنطقة العربية منذ عام 2011؛ لذا فقد وجدوا في قضية خاشقجي فرصة ثمينة لإرباك القيادة السعودية وابتزازها، أو محاولة إضعافها والوقيعة بينها وبين حلفاء دوليين مثل الولايات المتحدة.
علينا أن نقر بأن الضغوط التي تمارَس على السعودية لا تتعلق بحقوق الإنسان، ولا علاقة لها البتة بجمال خاشقجي؛ فالكثير من المزايدين لم يسمعوا من قبل اسم هذا الصحفي السعودي، ولكنهم وجدوا ضالتهم في قضية أجمع طيف كبير من العواصم على أنها فرصة لتحجيم الدور السعودي، وتحويل المملكة إلى تابع مطيع في الأزمات الإقليمية. وما فاقم هذه الرغبة التآمرية لدى البعض أن منطقة الشرق الأوسط تشهد أزمات طاحنة، تمثل السعودية أحد أطراف التسوية الرئيسية فيها، ومن ثم فإن التخلص من هذا الطرف أو إسكاته، أو على الأقل الحد من تأثيره، يصبح هدفًا يسيل له لعاب أطراف إقليمية ودولية عدة.
اللافت أنه وسط الكثير من القصص والروايات الإعلامية التي تروج لها جهات ودول بعينها تبدو الإدارة الأمريكية في موقف هادئ على غير العادة؛ إذ تبدو تصريحات الرئيس ترامب هي الأكثر وضوحًا وشفافية في هذه الأزمة، رغم ما عُرف عن ترامب ذاته من ميل للاستعراض الخطابي والكلامي، وإطلاق تصريحات عالية النبرة، ولكنه هذه المرة يبدو واضحًا صريحًا مباشرًا، يتحدث بمنطق عاقل، يُعلي المصالح الاستراتيجية بين الدول، ويفوت الفرصة على من يريدون استغلال القضية في نسف إرث علاقات التحالف الاستراتيجي القائم بين السعودية والولايات المتحدة منذ عقود طويلة مضت.