د. عيد بن مسعود الجهني
الحمد لله والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين.
الحمد لله الذي جعل الموت حقاً والبعث حقاً، قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} آل عمران 185.
فالحياة قصيرة يعيشها الإنسان متقلباً فيها يسعى ويعمل ويكسب ويتصدق من وافر رزقه، مقروناً بالعمل الصالح ليلقى جزاءه عندما يقوم الناس من قبورهم.
الإنسان الذي عاش حياة الدنيا، عندما يلقى ربه كما قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (يتْبعُ الميْتَ ثلاثَةٌ: أهلُهُ ومالُه وعمَلُه، فيرْجِع اثنانِ ويبْقَى واحِدٌ: يرجعُ أهلُهُ ومالُهُ، ويبقَى عملُهُ) متفقٌ عَلَيهِ، والعلم النافع والولد الصالح يدعو له.
ووالدتي -رحمها الله وأسكنها فسيح جناته- عُرفت بالدين والعمل الصالح والخلق الطيب والكرم والجود.
ولا أدري أي كلمات أسطرها لأقلل من واقع حزني على فراقها، فالكلمات تتقاصر عنها مهما اخترت من أعذبها، والجمل تعجز عن إيفائها حقها مهما تجاسرت وإذا ادعيت ذلك فقد كلفت نفسي شططا، فكل كلمة تراودني عن نفسها لأدونها أجدها قزمة بجانب الوالدة التي كانت إنسانيتها دفاقة وروحها وثابة لفعل الخير يقول الشاعر:
السن ضاحكة والكف مانحة
والنفس واسعة والوجه منبسط
لكن إيماني العميق أن الموت حق، قوَّى من عزيمة الصبر والاحتساب عندي، فلوعة فراق الحبيب مغروسة في النفس البشرية والوجدان قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} آل عمران 200، ويقول تعالى: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلا بِاللَّهِ} النحل 127.
وأي حبيب إنها الوالدة الحنونة التي شملتني وإخواني وأخواتي وأحفادها بالعطف والحنان بروحها الصافية الصادقة، فهي المربية الفاضلة والناصحة الأمينة أخذتنا جميعا تحت جناحها العطر وحنوها الدافئ الذي كان يشع بصدق السريرة لأم فاضلة لا تنطق إلا بكلمات تفوح رائحتها كالعطر.
عُرفت بالتقوى ونقاء السريرة والخلق الرفيع والتواضع الجم، لا أتذكر عنها -وقد اختارها الله جلّت قدرته إلى جواره- إلا كل ما هو جميل، صائمة عابدة كريمة بلا حدود تعطف على الصغير والكبير.
كانت -رحمها الله- تسعى إلى الخير، تكفل يتيما، تتلمس حاجة الفقير، يضيء وجهها نوراً وفرحاً عندما كانت تعرض علينا صورة ذلك اليتيم الذي وفقها الله لتكفله.
وكنا نراقب كيف تجعل الآخرين مفضلين عندها على نفسها الطيبة، شهدتها مراراً وتكراراً تفعل هذا ولا تبقي لنفسها لقمة عيش واحدة، فهي -رحمها الله- كانت غايتها وجُل اهتمامها سعادة الآخرين ما استطاعت.
الوالد -رحمه الله وأسكنه فسيح جناته- كان شيخ كرم في وقت الفقر، مجلس الرجال منفصل عن المنزل وبابه مشرع طول النهار ومعظم ساعات الليل، الضيوف إذا دخلوا من ذلك الباب قبل أن يقبل الوالد -رحمه الله- عليهم وهم في مجلسه، أنهى واجب الضيافة حتى لا يطلب منه الضيوف أقل مما فعله.
والوالدة التي في ذمة الله في غياب الوالد ما أن ينادي الضيوف القادمون استئذاناً بالدخول إلا وترحب بهم من وراء حجاب، وعلى نهج الوالد كانت -رحمها الله- تسير أمور الضيوف وواجبهم، وكنا أبناؤها وبناتها - رحمها الله - نشاهد هذا، فهي كريمة منحها الله إيمانا صادقا وروحا فياضة تعطرت بالخير، عامرة بحب خالقها.
الوالدة التي عُرفت بالتقوى والورع وصفاء السريرة، وأنا أودعها إلى مثواها الأخير، إلى جنات الخلد إن شاء الله، لا أملك إلا الدعاء لها.
وسأبقى متذكراً حنوها وعطفها وشفقتها وكريم شمائلها الطيبة، أتذكر ينبوع عطفها النقي الصافي.
وستبقى روحها العذبة التي ارتويت منها في عقلي وخاطري.
قال تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ، ارْجِعِي إلى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً، فَادْخُلِي فِي عِبَادِي، وَادْخُلِي جَنَّتِي}، سورة الفجر 27، 28، 29، 30
قال تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ. وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} سورة الرحمن 27، 26.
قال تعالى: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إلى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} سورة الجمعة 8.
قال تعالى: {الَّذِينَ إذا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} سورة البقرة 156.
والشكر كل الشكر لخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز الذي عرف باهتمامه بكل مواطن على أرض بلادنا الغالية، فقد شمل والدتي برعايته فخفف عنها آلام المرض الذي عانت منه لسنوات حتى اختارها الله إلى جواره، فخادم الحرمين الشريفين وجه بالعناية والرعاية بها فجزاه الله خير الجزاء وألبسه ثوب الصحة والعافية وأمد في عمره وبارك فيه.
ولا حول ولا قوة إلا بالله.
اللهم اجمعنا بها يوم البعث في جناتك..
جنات الخلد.. التي وعدت عبادك الصالحين.
وصلى الله وسلم على خاتم الأنبياء والمرسلين.