د. خيرية السقاف
حتى نحن الذين نحلم، نفكر، نحلق، نأمل، نرسم مسار العصافير، نفتح للنسمات الثقوب، والنوافذ، والكهوف، الذين نلضم خيوط الشمس في غسق الليل، الذين نحدو بمواويل الأنين في ضحى النهار، نحمل الدلاء للشفق، نمهد للعيون جداول مائها..
حتى نحن الذين من خميلة السحب نفوسنا، ومن رخو الندى قلوبنا، ومن خفق الضوء نبضنا..
نحن الرهيفون حدَّ الدمعة، القلقون حدَّ الخطوة، الحزانى في مأتم التيه، النبلاء في قمم الزهد..
الذين ليس لنا في شأن في السياسة حضور، ولا لنا في سم خياطها محاولة عبور..
شُغلنا بقضية «جمال خاشقجي» مع الكبير، والصغير حين هي قضية إنسان!
والإنسان قضيتنا !..
شغلنا مع الكل فغدونا لُحمة واحدة في الشأن، كما شغل به البعيد، والقريب، وتداخلت فيه النوايا، والأهداف..
لتنتصر أخيرا، وفي وقت قياسي عدالة البداية فينا، في بداية النهاية له..
وضربت السعودية بقدرتيها القيادية، والأمنية على المغلق في القضية ففتحت أبوابه بقبضة الانتصار، فحضرنا على أديم أوراقنا: الله أكبر، الله أكبر حين الحقيقة لا تضيع، ولا تختفي في وطن آمن، مستقر، له تاريخه في مواجهة المواقف, وعراقة نهجه في مواجهتها..
جاء الآن النطق الرسمي ببيان النيابة العامة: «مات جمال خاشقجي» إثر معاركة مع أفراد، ليرحمه الله..
لكن من هؤلاء الأفراد؟!
سعوديون، وإن كانوا في هامة جبل، أو مخبأ ظل، أو في بر، أو بحر..
وقال القائد الفذ من قبل قولا، وفعلا: لا نقبل أن يختفي مواطن، ولا نكشف عن اختفائه المكان، والزمان، أو نقف دونه..
وها هي السعودية العظمى شفيفة في الكشف، صلبة في القرار:
لجنة مشتركة، لجنة داخلية، مؤسسات عدلية، وأمنية، وحولهما عيون قادة، وهمة قلوب، وصولجان عزم، ومهابة قرار، وجاءت النتائج:
إعفاء كبارٍ من مسؤوليها فالنتيجة الفيصل.. التحقيق مع ثمانية عشر آخرين والنتائجُ الحَكم،
وفي الواقع قبل الاكتمال حتى كتابة هذه السطور:
إنها الحقيقة، هذه السعودية دولة مؤسسات، دولة حق، وعدالة، دولة لا تأخذها لومة، ولا يحركها حاقد، ولا تصغي لأبواق متربص، ولا تملي عليها مصالح حين يكون الشأن في ميزان عدالتها، فالكفة للحقيقة، وإن جاءت بخيبات في فقد، أوفي ثقة..
دولة حين يُدق بابُ واجبها تشرعه على مصراعيه، ولا تتأخر..
من له شأن عندها فليأتِ، وعلى طاولة فسيحة يجده في الطبق بتفاصيله..
ولأن القضية الراهنة شأن روح خرج جسدها من رحم أمها فوق ثرى أرضها، فأمره قضيتها على رأس المهام..
مواطن اختفى، غاب، لم يعد، والأقاويل تناثرت، والأصوات عجت، والعالم بكفتيه التي لا تنام، التي ضد، وهي تعمل بصمت، وروية، ودأب، وتعقل، وبحث، وتحقيق في الصغيرة الشاردة، وفي الكبيرة الواردة، اتخذت بنهجها الهادئ، وبعمق خبرتها المكينة ما خلصت إليه من نتائج مبدئية، ولم تشرق شمس أمس إلا أعلنتها واضحة جلية للملأ..
أسقطت من قائمة مسؤوليها، ورجال أمنها كفاءات يعتد بها ولم تبالِ, فالشأن الأول إجراء العدل في مجراه,، والأخذ بالخطأ نحو الصواب، وتطهير الخبايا من غبار الوهن..
رحم الله جمال خاشقجي، وألهم أهله، وذويه، وزملاءه، وخاصته الصبر، والأجر..
ونصر السعودية بنهجها العدلي، وأمانة دورها الريادي، وعوَّضها برجالها الأمناء، وشد أزر قادتها الصامدين مع الحق..