د.عبدالله مناع
كان بحر (جدة) منذ أكثر من ألف عام.. وإلى يومنا هذا، هو (عماد) حياتها الروحية والاقتصادية والثقافية، وهو على الجانب الاجتماعي والإنساني، (سلوتها) في أفراحها وأحزانها، فعبره يصل الحجاج والمعتمرون والزائرون إلى الأراضي المقدسة في مكة المكرمة والمدينة المنورة.. لتتمازج ثقافات هؤلاء القادمين فوقه بثقافة أبناء الجزيرة العربية ممن كانوا يعيشون ويقيمون فى تلك الأماكن المقدسة وحولها.. وعبره تأتي المنتجات الزراعية المختلفة.. من الحبوب والخضروات والفواكه والمعلبات.. إلى جانب المستلزمات الأخرى من الأخشاب والحديد والدراجات والسيارات المختلفة الأحجام: من الحافلات إلى الشاحنات إلى السيارات الصغيرة وقطع الأثاث، ومواد البناء.. إلا أن (جدة التاريخية) بُنيت بـ(الحجر المنقبي) والخشب (الجاوي) ومهارات معماريها، ولذلك كان رجال (المعادي) -وهم الذين يعملون في البحر- على حق.. عندنا كانوا يقولون: إن (جدة.. بُنيت على اكتافهم).
كان البحر.. لـ(العمل) أولاً.. ولكل الناس ترفيهاً.. ثانياً: إلا أن بحر جدة.. مع تطور المدينة في القرن العشرين الميلادي الماضي.. أصبح (بحرين): بحر في جنوبها للعمل و(البنط) واستقبال الحجاج والمعتمرين والزائرين، والواردات إلى ميناء جدة بمختلف أنواعها. وبحر في شمالها، للترفيه والتنزه على شواطئ (بحيرة الأربعين) وبحر المنتزه.. إلى جانب أن الكثيرين من الأهالي -إذا أرادوا التنزه على شواطئ البحر- كانوا يذهبون إلى جزيرتي: أبو سعد و(الواسطة) عبر (اللنشات) لقضاء ليلة ويوم هناك.
ثم تحولت نزهة الأهالي.. إلى (سقالة تو تشيل) فـ(غُبَّة عشرة)، ثم تحولوا بعد ذلك إلى (أبحر الجنوبية).. والقليلون منهم يذهبون إلى (أبحر الشمالية).. لصعوبة الوصول إليها والعودة منها.. إلا أن أكثرية الأهالي ظلوا يترددون على شواطئ (أبحر الجنوبية) الأقرب إليهم مكاناً.. خاصة في عصاري يوم الجمعة من كل أسبوع.
إلى أن تم اختيار المهندس المعماري الفنان الدكتور محمد سعيد فارسي، ليكون أول أمناء المدن السعودية قاطبة.. في أواخر السبعينات الميلادية من القرن الماضي، لتشهد مدينة جدة.. في عهده، وبدعم غير محدود من قبل ولي العهد آنذاك الأمير فهد بن عبدالعزيز.. ما لم تشهده، ومالم تعرفه من قبل وطوال رئاسات بلدياتها التي سبقت تعينه، إلا أنه انشغل بداية بـ(ثلاثة) أمور عن جدة القديمة أو جدة التاريخية بحاراتها الأربع: (الشام والمظلوم واليمن والبحر) وهو يسلم رئاسة بلديتها لصديقه وابن مدرسته المهندس المعماري الفنان (سعود القفيدي).. فقد كان يخشى على أراضي شمال شارع فلسطين -الشرقي والغربي- البيضاء: الشاسعة الواسعة والمغرية لسماسرة ولصوص الأراضي والمتربصين بها.. وما أكثرهم!!.. فكان أن أخذ من أراضيها عشرات الشوارع الفسيحة و(الميادين) التي يمرح فيها الخيل.. كما يقولون، لتظهر تلك الشوارع فيما بعد في (طريق الحرمين) في شرق المدينة، وفي شارع الملك فهد في قلبها، و(الروضة) في شمال شارع فلسطين، والذي سمي فيما بعد بشارع الأمير سعود الفيصل، وشارع صاري الذي يمتد من شرق المدينة إلى غربها، وشارع الأمير سلطان الموازي غرباً لطريق المدينة، ثم في طريق الملك عبدالعزيز أطول شوارع مدينة جدة وأعرضها.. الموازي لطريق الكورنيش. أما الميادين التي احتجز لها تلك المساحات (الخرافية).. فقد ظهرت فيما بعد في ميادين (الدراجة) وميدان (الفلك) و(الجواد الأبيض)، فـ(طارق بن زياد).. الذي كان تصميمه (تجسيداً) لكلمة القائد العربي طارق بن زياد في فتحه لـ(الأندلس).. عندما قال لجنوده: (العدو من أمامكم والبحر من خلفكم)، فكان نصر المسلمين في الأندلس، أما انشغاله الثاني، فقد كان في تزيين شوارع جدة وميادينها بـ(أجمل) الجداريات وأجمل المجسمات بعيداً عن التجسيد، والتي جلب لإنجازها أشهر المثّالين العالميين.. من أمثال: (لافونتى) الإسباني الإيطالي، و(هنري مور) البريطاني و(سيزار) الفرنسي.. لتلهمه الأعمال التي قدموها بـ(فكرة) إقامة (متحف) في الهواء الطلق على كورنيش الحمراء، الذي جعل منها بحق مدينة الجمال وعروس عرائس البحر الأحمر. وكان ثالثها: إقامة (كورنيش الحمراء) على امتداد شارع فلسطين الغربي.. فـ(الكورنيش الجنوبي) في جنوب جدة، الذي لحقه -فيما بعد- بـ(الكورنيش الشمالي)، الذي يعتبر بحق درة إنجازاته.. بامتداده الذي يبلغ أربعين كيلاً و(بحيراته) الت التي ينفرد بها عن كل الواجهات البحرية في مدن العالم!! والتي دفن نصفها وبكل أسف -فيما بعد- (رابع) الأمناء الذين خلفوه، ولكن.. ولأن (النجاح.. خطيئة) كما قال الفيلسوف الفرنسي (فولتير).. فقد ارتكب الدكتور محمد سعيد فارسي تلك (الخطيئة) بحسن نية!! ليتربص به أعداء النجاح شهراً بعد شهر.. وعاماً بعد عام.. حتى حملوه على (الاستقالة)، ليغادر موقعه مأسوفاً عليه.. ويخلفه خمسة أمناء على التوالي، كان أولهم هو أسوأهم وأطولهم بقاء على كرسيه.. حيث امتد به الجلوس عليه لأكثر من عشر سنوات، ثم غادره دون أن يترك له (بصمة) يذكرها له أبناء جدة ومن اختاروا العيش فيها، ليخلفه ثلاثة أمناء..لم يكن أحد منهم -وبكل آسف- على مستوى (جدة) وأحلامها وطموحاتها الواسعة.
ولكن، ولأن (جدة.. هي أم الرخاء والشدة)، التي تتقلب عليها الليالي والأيام.. فقد منّ الله عليها بـ(يوم أبيض).. وذلك بـ(تعيين) (أمين) خلفاً جديداً لها.. هو: الشيخ صالح التركي، الذي تشهد له أعماله الخاصة بـ(النجاح).. كما تشهد له نجاحاته في إدارة ورئاسة مجلس إدارة الغرفة التجارية الصناعية بجدة.. كما يضعه -في أعلى مراتب النجاح- تأسيسه وإدارته لـ(جمعية الأيتام) الخيرية بجدة، الذي جعل منه واحداً من أبرز رواد العمل الاجتماعي والإنساني المتميز.
ورغم صلتي التي اعتز بها بـ(شخصه).. إلا أنني لم أركض مع الراكضين.. لتهنئته في مكتبه الجديد بـ(الأمانة)، ولكنني اكتفيت بإرسال تهنئة له على (الجوال).. داعياً له فيها بـ(التوفيق) والنجاح، وسائلاً العون له من عندالله.. على مواجهة هذه المهمة الصعبة، التي تشكل تحدياً حقيقياً لـ(نجاحاته) التي عهدها في نفسه.. وعرفها عنه الآخرون.. والتي يكثر حولها القال والقيل، والتي تختلف حتماً عن إدارته لـ(شركاته) الخاصة أو إدارته لـ(الغرفة التجارية الصناعية بجدة) أو حتى (لإدارته لجمعية الأيتام الخيرية)، فكل هذه المؤسسات تقع في إطار منظومة العمل الخاص.. ولا علاقة لها بمنظومة (القطاع العام) أو القطاع الحكومي وبيروقراطيته، وأنظمته المتعددة والمتقاطعة والتي تعمل على تكبيله بأكثر ما تعمل على انطلاقه!! فلم أكتب عنه.. في انتظار ظهور (شهادة ميلاده) الحقيقية على أرض الواقع كـ(أمين) سابع لأمانة جدة، فلم يتأخر ظهور تلك (الشهادة).. إذ سرعان ما أعلنت عن نفسها بـ(قراره) تعيين المهندسة المعمارية (شذا المهنا) كـ أول رئيسة لأحدى بلديات (الأمانة) الثلاث عشرة أو الأربع عشرة: (بلدية ذهبان)، ثم جاء بعده قراره الأجمل والأشجع بـ(إزالة) الأسوار عن منطقة (شرم أبحر).. التي حرمت الأهالي والمقيمين من رؤية البحر، وجعلت رسامي الكاريكاتير يسخرون من الأهالي والبحر، عندما رسم أحدهم لوحة (كاريكاتيرية) تصور حشداً من الناس وقد تكدسوا فوق بعضهم على (فجوة) بين سورين من تلك الأسوار.. لرؤية البحر!! ليعيد بإزالة أسوار شرم أبحر.. (البحر) إلى الناس جميعاً، فلا يصبح البحر ملكاً لـ(أصحاب) الياقات البيضاء.. كما يقولون.. وحدهم.
فهنيئاً لـ(جدة) وأهلها.. بـ(امينها الجديد) الشيخ صالح التركي، آملين أن لا تتوقف (شاولات) الأمانة عن إزالة بقية تلك الأسوار.. وفي مقدمتها تلك الأسوار المخجلة التي تنتصب لتمنع رؤية البحر -بصورة مقززة- عن كل زوار ورواده. ودعاء من الأعماق.. بأن يكون الله في عونه.