فاتحة:
لم أجد مفتتحاً لهذه الورقة إلا هذه الخماسية الشعرية أحيي بها أخي وصديقي الأستاذ الدكتور سعد البازعي:
صباحك مورق فاسمع: لساني
بحبك ناطـق، وكذا جنـاني
فأما باللسان فحرف شعري
إليك يمد – في حب – يدانِ
وأما خافقي فأراه نبضاً
يفتش عنك في كل الأغاني
وحسبك من لهيب الشوق أني
إلى علياء روحك في تفاني
فأنت منحـت معرفتي اتقاداً
وأنت صببت في لغتي بياني
# # #
(2) واسمحوا لي أن أعود بالذاكرة إلى عام 1403هـ. كان الدكتور البازعي للتو عائداً من بعثته الدراسية في أمريكا وحاصلاً على شهادة الدكتوراة في موضوع «الاستشراق الأدبي في الأدب الأنجلوأمريكي في القرن التاسع عشر»، وبعد سنتين وتحديداً في 10/7/1405هـ يستضيفه نادي جدة الأدبي في محاضرة نقد/ أدبية فيختار موضوعاً حيوياً ومعاصراً وحداثياً (بامتياز) وكان عنوانه «النموذج العبراني في الأدب الأمريكي»، وكنت أحد الحاضرين والمستفيدين من كم المعلومات الثرية التي قدمها ليلتئذ، ولعل ما بقي في الذاكرة منها وأثرها عليّ فيما بعد يبين قيمتها المعرفية والنقدية والفكرية التي قدمها المحاضر في ثوب بديع من اللغة البسيطة والأسلوب الشائق، والروح العلمية المعرفية. أذكر أن محاضرته كانت تدعو – فيما تدعو إليه – إلى ضرورة الامتزاج الحضاري والثقافي وأن زمن الممانعة لا يجدي فالحضارات تتنامى وتتلاقح وتتواصل – ونحن في أمس الحاجة إلى التواصل مع تلك الحضارات الغربية.
أذكر هنا جيداً لأنني (آنذاك) مهتم بالدراسات الاستشراقية فأنا للتو متخرج من مرحلة الماجستير في التاريخ الحديث ومن ضمن اهتماماتي القرائية المكون الاستشراقي في الثقافة العربية!! وهذه المحاضرة أضافت إليَّ بعداً جديداً ومفيداً في التعالق الحضاري والثقافي بين العرب والغرب كانت نتائجه – على المستوى الشخصي – محاضرة قدمتها في منتدى جماعة حوار بنادي جدة الأدبي مساء يوم الثلاثاء 1 رمضان 1406هـ بعنوان: «العرب والغرب/ قراءة في دينامية التعالق التاريخي»(1).
ومحاضرة قدمتها ضمن الموسم الثقافي في كلية التربية للبنات في جدة صباح يوم الثلاثاء 21/11/1427هـ بعنوان «العلاقات بين الشرق والغرب/ حوار أم صراع».
ثم ورقة عمل قدمتها في ملتقى نادي تبوك الأدبي عام 1431هـ بعنوان: «الاستشراق والاستغراب/ قراءة في سجال الخطابات الثقافية».
وكذلك قدمت برنامجاً إذاعياً في إذاعة نداء الإسلام بعنوان: «معالم وآفاق.. في عالم الاستشراق» عام 1431هـ.
أذكر ذلك لأقول: إننا أمام شخصية ثقافية ملفتة للنظر، منتجة، ومحفزة على التواصل والاستفادة، تعطي وتقدم كل جديد.
# # #
(3) سعد البازعي، أفق ثقافي يمتد في حياتنا الثقافية ومشهدنا الفكري المعرفي - ليس على مستوى الوطن السعودي فقط وإنما على المستوى الخليجي والعربي والعالمي - أيضاً – وذلك من خلال نتاجه الفكري الذي قدمه طوال السنوات (الست والثلاثين) منذ تخرجه بشهادة الدكتوراة وحتى الآن، فبالوقوف والاطلاع على المسرد البحثي، والمنجز الكتابي، والفعاليات الفكرية التي شارك بها، والخبرات العلمية التي اكتسبها(2) يتضح لنا أنه قامة أدبية وفكرية شرفت الوطن السعودي، وجعلته رقماً مهماً على الخارطة الثقافية العربية. ومن ذلك نجد أن صديقنا يمحور ذاته الفكرية وإنتاجه المعرفي في حقول متعددة وأبرزها:
- العلاقات مع الآخر.
- الخطاب الاستشرافي.
- النقد الشعري (المحلي والخليجي والعربي).
- الموروث الشعبي.
- المفاهيم والمناهج النقدية.
- الترجمة والمراجعات العلمية.
وهذا يعطينا دلالة أكيدة على كينونة الثقافية، وآفاقه الأبستمولوجية وتنامياته النقدية.
# # #
(5) و»سعد البازعي» رقم مهم جداً في خريطة الحداثة السعودية التي تشكلت في أواخر الثمانينات، وكان اسماً نقدياً مطروحاً بقوة في المشهد الثقافي المحلي، حيث دخل في معترك الصراع الحداثي/ التقليدي، وأنجز الكثير من أطروحاته النقدية الملامسة للنص الحديث/ الحداثي سرداً وشعراً تبشيراً به وتعريفاً بطبوغرافيته، وجدلاً احتفالياً بمنظوماته الأدبية، وجمعت كل تلك الطروحات فيما أسماه «ثقافة الصحراء» ذلك الكتاب النقدي الذي صدر عام 1991م، وكان مفهوماً جديداً ومتجاوزاً، يحدد ملامح المنتج الأدبي الحداثي السعودي في تلك الفترة كونه أدباً صحراوياً منتم للبيئة السعودية. ثم تمدد هذا المفهوم وتطور في كتبه التالية «إحالات القصيدة» عام 1998م، وكتاب سرد المدن/ الرواية والسينما عام 2009م.
وفي هذا السياق كانت مشاركاته كمحاضر في نادي جدة الأدبي – الذي تبنى المشروع الحداثي والتبشير به آنذاك – فكانت محاضرته في عام 1405هـ عن «النموذج العبراني في الأدب الأمريكي» والتي أشرت إليها آنفاً. ثم كانت محاضرته في العام 1416هـ عن «الخطاب الاستشراقي في الأدب الأنجلوأمريكي»، ثم كانت مشاركاته المتعددة في ملتقى النص الأدبي الذي يقيمه نادي جدة الأدبي سنوياً في الأعوام 2002م – 2005م وتقديم أوراقه في حقول ثقافية متعددة مثل قابلية الثقافات للترجمة – خطاب التنوير الشعري -.
وفي العام 1434هـ وتحديداً في 26/ صفر، تشرفت بمشاركته في إدارة الأمسية الثقافية في نادي جدة الأدبي في محاضرته التي عنونها بـ: «السلطة والثقافة: مواجهات النص»، وقد كتب إليَّ حينها رسالة لا أزال أحتفظ بها: «الأخ الكريم الدكتور يوسف العارف، أسعد الله أوقاتك.. وكم يسعدني أن تكون بجانبي في محاضرة الثلاثاء فمثلك خير من يقدم المحاضرة».
وكانت تدور حول العلاقة المتباينة بين المثقف المنتج للثقافة والسلطة الرقيبة والموجهة للثقافة وأذكر أنني قلت في التقديم إن هذا مشروع ثقافي حيوي بدأه الدكتور البازعي من جازان حيث حاضر عن المعرفة والسلطة (أبو حيان التوحيدي وابن المقفع أنموذجاً) في 16/11/1433هـ، وفي القطيف ألقى محاضرة عن المفكر والرقيب/ سؤال القول والفعل (إدوارد سعيد، الجابري، العروي أنموذجاً) في 25/12/2012م.
كما أذكر أن المحاضرة دارت حول بعض النصوص الشعرية والسردية التي كانت تمثل ميداناً للمواجهة بين السلطة بمفهومها الواسع (سياسية، اجتماعية، ثقافية) والمثقف المنتج الذي يسعى للتعامل مع ضغوط السلطات المختلفة وما ينشأ عن ذلك من توترات نصية تجعل الأديب المثقف يلجأ إلى صيغ تعبيرية واستراتيجيات نصية تمكنه من تجاوز تلك الضغوط. وكانت النماذج التي اختارها: الروائي العراقي سنان أنطوان إعجام، والروائي السعودي عبدالرحمن منيف، والشاعرتين السعوديتين فوزية أبوخالد، وخديجة العمري، والشاعر سعدي يوسف.
كما أذكر أني ختمت المحاضرة والمداخلات ببيت من الشعر قلت فيه:
ليلتي هذه فضاء من الفكر
صاغه البازعي باقتدار
# # #
(5) وأخيراً فإن الأستاذ الدكتور سعد البازعي قامة وقيمة وعلامة نقدية بارزة في مشهدنا الثقافي وعضو فاعل ونشط ومشارك في الحراك النقدي الشعري.. والثقافي.. والسردي.. كتب عنه زميلنا الأستاذ/ الناقد سعد الرفاعي ورقة علمية قدمها في ملتقى نادي الرياض عن نقد النقد الثالث عام 1431هـ، وأشار فيها إلى منهج البازعي النقدي عبر ركائز ثلاثة أساسية وهي: (الاحتفاء الجمالي، المقارنة والموازنة، المرونة النقدية)(3).
وأنا أقول إنه ناقد يعمل في صمت ودون ضجيج إعلامي، ويقدم نفسه جلياً من خلال إنجازاته ما بين محاضرة أو ورقة عمل أو كتاب نقدي أو بحث محكم منشور أو مشاركات في ندوات وملتقيات وقد توج ذلك كله بحصوله على جائزة السلطان قابوس للنقد الأدبي في العام 2017م وهي جائزة رفيعة المستوى يستحقها الدكتور سعد فهنيئاً له.
وختاماً فقد سأله أحد الصحفيين الرياضيين: في مسيرتك الذاتية قائمة طويلة: مستشار، مدير، مشرف، رقيب، أمين، أستاذ مساعد، أستاذ مشارك، أستاذ متميز، من أين لك هذا؟!
فرد عليه:
«هذه القائمة الطويلة ليست ثروة غير مشروعة لكي يقال من أين لك هذا؟ وإنما هي ألقاب وصفات علمية جاءت نتيجة لجهد طويل وتعب وأنا شديد الاعتزاز بها»!!(1).
نعم!! هذا هو الأستاذ سعد البازعي الباحث، الناقد الذي يستحق المحبة والتقدير ولهذا فأنا سعيد كل السعادة أن أشارك في هذه التظاهرة الكتابية للاحتفاء بقلم ناقد، وناشط ثقافي بارز له في القلب الكثير من الود والاحترام.
** **
- د. يوسف حسن العارف