اميمه الخميس
خلال محاضرة قدمها د. سعد البازعي في مركز الملك عبد العزيز الثقافي أمام جمهور نخبوي اختلطت فيه الأعراق وغلب عليه الحضور الاسكندينافي, تحدث عن سطوة ثقافة الصورة على الفضاءات الفكرية والفنية محليا, وكان مدخل المحاضرة هو مقطع لموسيقى (السامري الشعبية) أعاد توزيعه مجموعة من الشباب عبر آلات حديثة, فتحول عندها الوقع السامري الحييّ الخجول والذي عادة (تترنم طبوله لواعجها بحذر) إلى إيقاع فتىّ صاخب ومرح.
تحدث وقتها د. البازعي عن السامري تحديدا أطواره وتحولاته عبر انجليزية أكاديمية أنيقة, وأسهب بروفسور اللغة الإنجليزية في الحديث عن الفن الشعبي عموما وعلاقته بالنخب القادرة على صياغة مشهد ثقافي مختلف, وأحالنا إلى قدر هذا الأكاديمي الذي ينتمي إلى السرب الذي يحلق ليحط فوق برزخ يشق عالمين, وثقافتين, يعرف كثيرا ويضمر أكثر.
صراع الشرق والغرب يغور عميقا في التاريخ منذ زمن الإمبراطوريات القديمة, جيوش الشرق, توتر الثغور, رايات الحملات, ولكن في العصر الحديث عندما أُغمدت السيوف أشهر الاستشراق قلمه, بمكونه الذي يضمر عجرفة مركزية الأوروبي وخرائطه المثقلة بطموحاته.
المفارقة إن النزال مع الاستشراق أو الخطاب المضاد كان في نفس مضمار المعركة, فبات وكأنه نوع من النقائض التي يتراشق بها الفريقان, مركزية المستعمر وأدواته مقابل نضالات ومقاومة الطرف المقابل.
والمتتبع لنتاج د. البازعي بروفسور الأدب الإنجليزي سيجد أن مدونته الأكاديمية تقبع فوق شرفة توارب نوافذها على الزاوية الحرجة, التي تعي أن هناك مكانان وبوصلة تحرص على أن تتخلص من مغناطيس الأجوبة المنمطة.
لم يُستدرج د. سعد إلى مضمار السجال الاستشراقي في نتاجه الفكري, رغم أن أطروحته في الدكتوراة كانت حول (الاستشراق الأدبي في الأدب الأنجلو أمريكي في القرن التاسع عشر) ولعل هذا يرجع إلى سمة الهدوء الأكاديمي الوقور الذي يجعله يتحرز من الشعارات, ويعي بأن التصورات المسبقة هي الأسيد الذي يصب فوق تماسك الخطاب ومنطقيته, لذا كان لقاء الشرق مع الغرب لدى د.سعد البازعي في خمائل الهدنة, حيث الفنون والآداب تؤصل للمشترك الإنساني, وسكان الكوكب الأزرق الجميل يستبدلون بوق النفير بشجن الوتر.
***
لكل مؤلف هناك خيط رفيع ينتظم مؤلفاته, فمهما اختلفت مواضيعها وتفاوتت أنواعها الأدبية, إلا أنها تبقى تحمل نفس المادة الخام الأولى التي يتأبطها المفكر كقدر ومشروع حياة.
شكسبير صال وجال عبر العصور من قاع يوليوس قيصر إلى تاجر البندقية, لكن ظل مأخوذا بالقيم الكبرى التي تنازل حتميات الأقدار عبر ميلودراما عاتية.
أمين معلوف ظل معنيا بالحوار بين الشعوب كترياق وحيد لفظائع البشر, بينما نجيب محفوظ كان يجد في جرم الحارة الصغير الكون الأكبر.
ونتاج د. البازعي تحضر فيه بشكل واضح ثنائية الشرق/الغرب, التي تتبدى بحسب زاوية الالتقاط, ففي كتابه المكون اليهودي في الثقافة الغربية, تشعر بأنه استطاع أن يتجاوز كثيرا من الفخاخ التي تتربص بهذا الموضوع, وقدم لنا أطروحة متماسكة, حول أثر اليهود كأقلية داخل الفكر الأوروبي, داخل هذا الخطاب سيبدو المشهد مغريا أن يستدرج إلى السجال الاستشراقي المعهود واللغة النضالية الثورية, لكن الكتاب تترس بحياد علمي رصين يفرش المعلومات بين يديك, لتختار حقيقتك الخاصة, ويؤصل للغة علمية بعيدة عن الصخب الأيدلوجي.
كتابه (ثقافة الصحراء) راجعه المستشرق الأمريكي روجر ألن, لتتسع الآفاق وتنجو المعلومة من نوستلجيا الوطن, فطلائع البعثات, تتأبط حلما شاسعا وسلة قطاف لأثمن ما في غابات الآخر من مشترك القيمة الإنسانية, وعند الأوبة للصحراء سيعاد استزراع قطع الضوء في الواحات وبين الكثبان, فالعالم لم يعد مشروعا للغزو بل غابة للاكتشاف.
هذا الحياد العلمي الرصين الذي يقع على برزخ ثقافتين, ينتظم معظم مؤلفات د. البازعي التي تستقل بخمائلها ورؤيتها, وهو نفس الأمر الذي نجده يتجلى في مشروعه النهضوي (الملتقى الثقافي).
فهو بعد تنقله في عدد من المناصب الرسمية والأكاديمية التي كان فيها على الغالب محكوما بطبيعة العمل ومتطلباته الرسمية, اختار أن يستقل ويستزرع واحة تكون هي د. البازعي ...تعكسه وتمثله ...ويزرع فيها تلك النبتات النادرة والمدهشة والنخبوية, والتي جمع شتلاتها على امتداد مسيرته الثقافية, عندها صار الملتقى مقصدا ومرباعا لمثقفي ومبدعي مدينة الرياض.
وهذا ليس بكامل الحكاية فالمرج المعشب مابرح يسقى بماء فكر حر وخلاق ترف حوله أجنحة الفضول والدهشة. في النهاية لا أريد أن أختم موضوعي بنقطة ...فما برح لدى الدكتور سعد الكثير نرقبه وننتظره.