الثقافية - محمد هليل الرويلي:
فكر بعمق العمق وتخوم الفراغ الفارغ لإيجاد حالة من الامتلاء والاكتفاء المقنع، قبل أن نخبط في القاع، تقدم ليرفع الغطاء الملقى، أشاح ببصره، صدمه منظر القناع المتلبس للحالة المزعومة بالحركية, ليس لكونه بشعًا دميمًا فقط, إنما لكون بقية الجسد المتمدد مغطى بورق أبيض وممسد وسط غرفة ضيقة. ذكرته بصمت سكان القبور المطبق. لا بد أن أشكال لفافات الورق الخالية من أصوات الحروف الناطقة بدهشة. ذكرته بالروايات الجنائزية، وقصائد المراثي وقصص الضعفاء الحيارى، ألقى بالألواح التي سبكها بعقله المفكر وصدره المملوء بالحركات النقدية في كل زوايا الغرفة الضيقة المبنية من طين وقش البدايات. اتسعت رئته في الجامعات، ولم يكتفي إنما نهض قوي الشكيمة والعزيمة ليبعث اكسير الحياة في التخوم الجثيمة خلقًا آخر لغته أبجدية حية أمداؤها بصمات السعد البازعية فهو الأجدر والأملك لنيرونها. وأنا المحمد أمتعض أسفًا بأننا لم نعِ فكر البازعي وغيرنا عضو على نتوجه بأنجذتهم، وارتأوا من طروحه الدفع بعجلات المجتمع نحو قطب الصحانية وتوفرة الأمناخ الأوغر خصبانية بتلباس بكروي مشاع بين الأرحام والأعراق الإنسانية.
* نعيش الآن في عصر الرواية التي صارت ديوان العرب بعد أن سحبت البساط من الشعر، هكذا يقول غير ناقد، وظلّ الصراع محتدمًا حول هذا الادّعاء من لدن صرّح جابر عصفور بذلك. ومن يتأمل المتداول والمنشور الآن في فضاءات الكتابة والقراءة والنقد على مستوى أنديتنا وجامعاتنا ومؤسساتنا التعليميّة وملتقياتنا ومنتدياتنا ومؤتمراتنا المختلفة يجد للرواية القدح المعلى من ذلك، فإلى أي الفريقين ينتمي البازعي؟ إلى الذين يهللون لربة الرواية ويهتفون فرحًا بعصرها؟ أم يجد البازعي نفسه مع الذين يذرفون الدموع على الشعر، ويرون أنّ سلطانه ما زال باقياً وأنّه فنّ العرب الأول إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؟
ـ ما أراه هو أننا نعيش الآن في عصر «طفرة الرواية»، وليس «عصر الرواية». هي لحظة بروز الرواية في حياتنا الثقافية والأدبية وهيمنتها، لكنها ليست لحظة أو هيمنة دائمة. ثمة فورة إبداعية وتحول اجتماعي جعلا الكثيرين يتجهون للرواية لأسباب منها التقليد والموضة، لكن منها أيضاً أن الرواية شكل أدبي يتناسب مع توسع الحياة المدنية وتمدن الإنسان وانشغاله بتفاصيل حياتية لا تستطيع القصيدة استيعابها بإرثها الغنائي ورهافة لغتها وكثافة مجازاتها، أي القصيدة في شكلها الأكثر حضوراً، وإلا فهناك القصيدة السردية والملحمية، لكنها أقل انتشاراً. الرواية تتسع للكثير من هم الإنسان وأحلامه في حياته المجتمعية وليس الفردية فحسب، ومن هنا جاءت طفرتها. وأسميها طفرة لأنني لا أعتقد أنها ستدوم. ما سيدوم هو اتخاذ الرواية مكانها الطبيعي بوصفها شكلاً أدبياً مهماً وضرورياً إلى جانب القصيدة والقصة القصيرة والمسرحية، وغير ذلك من أشكال التعبير الثقافي. ستهدأ العاصفة وسيكتشف كثيرون أنهم ليسوا كتّاب رواية حقيقيين، وسيكتشف القراء أنهم بحاجة إلى القصيدة (لاحظ أنني لم أقل الشعر؛ لأنه حاضر حتى في الرواية وإن بقدر أقل)، مثلما أنهم بحاجة إلى الأشكال الأخرى. هذا مع أن صوت القصيدة، أو الشعر إن شئت، لم يخفت يوماً، وما زال الشعراء أكثر من الروائيين، وإن كثر بينهم المتوهمون بأنهم قادرون فعلاً على إنتاج أعمال جديرة بتلك الأنواع.
لدينا روايات سعودية لا تقل عما أنتجه العرب
* وبما أنّنا دخلنا حمى الرواية، فثمة أسئلة كثيرة يطرحها المتلقي حول الرواية السعوديّة، هل هي حقيقة استطاعت أن ترصد تحولات المجتمعات من منطلق أن الرواية جنس شعبيُّ ليس نخبويًا كالشعر؛ هل استطاعت أن تقترب من المجتمع تصويرًا لأحداثه، وتدويرًا لها بين يدي المتلقي؛ فقدّمت المجتمع للآخر على حقيقته؟ أم أنّها ظلّت تنقب عن المسكوت عنه، وتفصح به تسويقًا لمنتجها إفصاحًا أحدث قطيعة بين الرواية والمجتمع السعوديّ المنكر لكثير من إسفافات بعض الروايات؟
ـ لم يكن من الممكن للرواية أن تتسيد المشهد لولا إقبال الناس عليها، ولم يكن للإقبال أن يتحقق لولا أن الناس وجدوا في الرواية بعض همهم، بعض تفاصيل حياتهم وتطلعاتهم وخيباتهم. الرواية في يد كتّابها البارزين حققت المعادلة المطلوبة، وهي الجمع بين متعة السرد أو القص والقدرة على استجلاء خبايا الحياة الإنسانية في مجتمعنا، مثلما تحقق ذلك لكتاب في مناطق أخرى من الوطن العربي والعالم. لدينا روايات لا تقل عما ينتج في أقطار أخرى من الوطن العربي، وبعضها يرقى لأن يكون عالمياً. ولعل ترجمة الكثير منها شاهد على ذلك، فدور النشر التي نشرت الترجمات لم تكن لتنشرها مجاملة لكتّاب سعوديين، وإنما لأن في الروايات ما يميزها في سرد الحياة الاجتماعية بلغة وأشكال روائية مقنعة. صحيح أن بعض ما ترجم وانتشر حقق ذلك لأسباب تتعلق بالغرائبية التي يجدها القارئ الغربي، خاصة في مجتمعنا أو فضوله لمعرفة ذلك المجتمع، لكن منها ما يحمل قيمة سردية ومضمونية مهمة، ولن أضرب أمثلة لكثرتها الآن.
* منذ منتصف الثمانينيات ظلّ البازعي مسكونًا بالآخر، وظهر ذلك في باكورة أعماله، مثل بحثه عن (الذات وحضارة الآخر: البحتري وييتس)، وفي بحثه (تمثيلات الآخر ورحلة الاصطلاح)، وبحثه في (استقبال الآخر: الغرب في النقد العربي الحديث)، وفي بحوث جريئة مثل (المكوّن اليهودي في الثقافة المعاصرة)، وغير ذلك من بحوثه عن قضايا الاستشراق، هل يعد ذلك هاجسًا في كتابات البازعي، وأنّه ظلّ متشظيا بين ثقافتين: الثقافة العربية والغربيّة؟ أمّ أنّ ذلك وعي منه بخطورة الآخر ودوره في تغيير كثير من واقعنا الثقافي والاجتماعيّ؟ وهل يرى البازعي بعد هذا المشوار الطويل مع الآخر أنّ الحديث عن آثاره والتأثّر به ما زال منفذًا في الكتابة لم يغلق، وبحاجة إلى المزيد، بخاصّة ونحن اليوم نتمازج مع الآخر في ثقافته وذلك بعد اجتياحنا العولمة وارتحالنا في عوالم التكنولوجيا؟
ـ الآخر الثقافي جزء من تكويني منذ بداياتي في القراءة، أي قبل دخول الجامعة والتخصص في الأدب الإنجليزي. وما سعيت إليه هو استثمار تلك العلاقة بالآخر في دراسات أشار إليها السؤال وأُخَر لم يشر إليها. لكني سعيت أيضاً إلى ألا يتحول ذلك الاستثمار إلى تشظي وإنما إلى مواءمة وتكامل وحوار متصل بين الثقافات. وفي تقديري إن التمازج بالآخر عبر وسائل التواصل لم يلغِ الآخرية والاختلاف بل عمق الشعور بهما، وهما خاصتان إنسانيتان من شأنهما إغناء الحياة الإنسانية؛ فالتعرف على الآخر إلى درجة التمازج لم يلغِ الاختلاف اللغوي ولا العادات والمعتقدات. هو قرب بينها، وعرف هذا بذاك، لكن الاختلاف ما زال قائماً. في الاتحاد الأوروبي حوالي 27 لغة، كلها تترجم بعضها إلى بعض، وقد نشأ عن الوعي بما بينها من اختلاف نظريات في الترجمة ترى استحالة نقل بعض المفاهيم من لغة إلى أخرى. نعم، التشابه حاصل نتيجة العولمة الزاحفة أو السيولة الحداثية، لكنها أدت في بعض نتائجها إلى حركات مقاومة للاحتفاظ بالهويات وتعزيز الاختلاف ورفض الهيمنة، ولعل الدراسات ما بعد الكولونيالية دليل واضح على ذلك.
* يقول البازعي في بحثه عن «ما وراء المنهج»، المنشور في كتاب : «إشكالية التحيُّز - بداية معرفية ودعوة للاجتهاد» الصادر في 1997م، إنّ «مناهج النقد الأدبي في الغرب متحيزة في جوهرها للأنساق الحضارية التي نشأت فيها. وإن الناقد العربي أمامه طريقان، الأول: تطبيق تلك المناهج مع مضامينها وتوجهاتها الفكرية المعرفية، والثاني: إحداث تغيير جوهري في هذا المنهج أو ذاك. والنتيجة اختلاف المنهج المُعدّل عن المنهج الأصل. يأتي هذا القول في سياق تاريخيّ معلوم في بلدنا إبّان الصراع المحتدم بين أهل الحداثة والمحافظين الذين لا يرون في مناهج الغرب إلا مسخًا وتشويهًا لثقافتنا التي يجب أن نجنبها من هذه المناهج التي نشأت في بيئات حضارية وفكرية وثقافية مختلفة تمامًا عن بيئتنا السعودية خاصّة، فهل كان البازعي في ذلك الموقف متماهيًا أو بالأحرى مسالمًا لذلك التيار أم أنّه يصدر عن قناعة؟ وإلى أي مدى انعكست القناعة في كتاباته؟ وأين يجد البازعي اليوم النقد السعوديّ المعاصر من مسايرة ركب المناهج الغربيّة، سواء أكان هذا النقد في المؤسسات الجامعية أو في الأنديّة والملتقيات؟ وهل عدل البازعي عن ذلك الرأي بعد التغيرات الكبيرة التي شهدها نقدنا المعاصر وبعد تسامح التيارات المتشدّدة مع تلك المناهج أم ما زال البازعي على رأيه ومبدئه؟
ـ كتاب «إشكالية التحيز» ليس كتابي وإنما هو كتاب من جزأين، يضم أبحاثاً لعدد كبير من الباحثين في مختلف قطاعات المعرفة، حرره وأشرف على إعداده الراحل د. عبد الوهاب المسيري، وكنت أحد الذين أسهموا في المؤتمر الذي عقد في القاهرة حول التحيز، ونشرت أبحاثهم فيما بعد.
أما ما يتعلق بالأطروحة التي دعوت إليها فتنسجم مع الأطروحات الأخرى في الكتاب من حيث هي تنطلق من القناعة بتحيز المعرفة، وهي قناعة منتشرة عالمياً اليوم، يؤكدها مفكرون ونقاد ومبدعون في كل مكان. باتت من البدهيات لدى كثيرين. الاختلاف هو في مكامنها ودرجة تأثيرها. وما دعوت إليه يتأسس على القناعة بعمق ذلك التأثير والحاجة من ثم إلى إحداث تغييرات بعضها جوهري في مناهج النقد الأدبي، ينسجم مع متغيرات البيئة الثقافية التي تنتقل إليها. أي أنه لا يعني التخلي عنها، وإنما الاحتفاظ بها مع مواءمتها. هذا رأيي القديم المتجدد، وهو ليس ما يراه المحافظون الرافضون لأي تبنٍّ لفكر قادم من الآخر. وقد قلت هذا وأعدت القول فيه حتى بات مكرراً جداً. فليطلع من يود الاستزادة على كتابي «استقبال الآخر»؛ ففيه إجابة موسعة على السؤال..
فيما يتعلق بتجربتي الشخصية أستطيع القول إني أحد الذين يفيدون من المناهج الحديثة، ويدرّسونها منذ أعوام. وكتاب «دليل الناقد الأدبي» مع الزميل د. ميجان الرويلي يؤكد الحرص على نشر المعرفة بتلك المناهج، لكنه حرص يمتزج بالرغبة في نشر الوعي بما تتضمنه تلك المناهج ومصطلحاتها من إشكاليات وتحيزات، وأن الوعي يقتضي تناولاً مركّباً وأكثر حساسية تجاه الاختلافات الثقافية، يحول دون عملية القص واللزق التي يتبعها بعض النقاد حين يطبقون فقط، وكأنما ما أنتج في فرنسا صالح لكل زمان ومكان. فالفرنسيون وغيرهم من الغربيين أكثر وعياً بمحدودية المناهج والحاجة إلى التعامل معها بوعي نقدي قادر على تطويعها وتطويرها.
استنتاجك بعيد عن الصواب.. المرأة قضيتي
* المرأة غابت عن أدب البازعي بأشكالها وتجلياتها كافة، على الرغم من حضور قضاياها وإشكالياتها في المشهد الثقافي، وما يتصل بها من الأدب النسويّ والنسائيّ، ودخولها فضاء الرواية، وخوضها في المسكوت عنه والمحرّمات المجتمعية وغير ذلك، هل غابت المرأة عن فضاء الكتابة عند البازعي قصدًا لشيء في نفس يعقوب، أم غفلًا دونما قصد؟
ـ لا أذكر أن استنتاجاً يتعلق بأعمالي أبعد عن الصواب مثل هذا.
ذلك أنني لا أعتقد أن أحدًا قرأ ما أنتجت منذ أواسط الثمانينيات، وتضمنته كتب مثل «ثقافة الصحراء» (1991) في البداية، حتى أحدثها وهو كتابي «مواجهات السلطة» (2018)، سيتفق مع القناعة التي يصدر عنها هذا السؤال؛ ذلك أن المرأة موجودة في كل ما كتبت تقريباً والأسماء والأعمال مما يصعب حصره من شاعرات إلى روائيات إلى باحثات إلى مفكرات، بل وحتى المستشرقات اللاتي لا يكاد يعرفهن الكثير من القراء كتبت عنهن. لقد وصل الأمر بالبعض إلى حد اتهامي بالمبالغة بالاحتفاء بالمرأة. كما أنني لم أكتفِ بالكتابة عن أدب المرأة (ابتداء من فوزية أبو خالد وأشجان هندي، حتى أميمة الخميس وبدرية البشر، وغيرهن كثيرات). لقد فعلت ما لم يفعله غيري ولا فخر حين تشاركت مع المرأة في ترجمة كتاب، وشجعت أخرى من طالباتي اللاتي أعتز بهن على ترجمة أبحاث لي نشرتُها في كتاب عليه اسمها. المرأة في كل مكان مما كتبت تقريباً، وباللغتين العربية والإنجليزية. أظنني أول ناقد سعودي ينشر بحثاً عن الأدب الحديث في المملكة والخليج بالإنجليزية وفي مجلة أمريكية يتضمن عناية خاصة بالمنتج الإبداعي النسائي. هذا أقوله ليس تباهياً وإنما سعياً للإنصاف، وإلا فالكتابة عن الأدب، سواء أنتجته امرأة أو رجل، ليس تفضلاً مني أو من غيري، وإنما هو واجب على كل محب للأدب معني بنقده..
ابتعدت عن أختي لألتصق بالقراءة
* نعيش الآن في عصر المفارقة، عصر كثير المعارف، وقليل الاطلاع فيه، يسهل الوصول إلى المعلومة وتقلّ الإفادة منها، نقرأ اليوم عن ماضي أساتذتنا أنّهم كانوا يهاجرون إلى الكتاب ويتنقلون بين العواصم طلبًا له، واليوم في أجهزتنا الثابتة والمحمولة ملايين الكتب، ولكنّنا لا نقرأ، تُرى هل العيب فينا أم في زماننا؟ وهذا يقودنا إلى سؤال عن تجربتكم في القراءة؟
ـ تجربتي في القراءة فردتها في محاضرة ألقيتها في مكتبة الملك عبد العزيز العامة قبل سنوات، ونشرتها المكتبة ضمن محاضرات أخرى في كتاب متاح للجميع. باختصار: القراءة كانت رفيقي منذ الابتدائية، وطالما أشرت إلى حادثة كانت الشرارة الأولى حين اقترح علي أخي الأكبر محمد - رحمه الله - أن أترك اللعب مع أختي التي تصغرني بقليل، واتخذ مكتباً عليه دفاتر وأوراق. منذ ذلك الحين والمكتبة جزء من حياتي، لكن علاقتي الأنضج بالكتاب لم تبدأ بالتبلور إلا في الجامعة، ولا تزال لدي كتبي الأولى، وكانا ديواني شعر.
عادتي في القراءة هي التهميش على النص أو كتابة ملاحظات خارجه، لكني أؤمن بأن القراءة التفاعلية على الطريقة التقليدية هي الأنجع في ترسيخ المعلومة وتنشيط عملية التفكير أثناء القراءة؛ لتتوقف عن كونها عملية تلقي في المقام الأول، وتصير نوعاً من الجدلية بين نص وذهن..
* ثقافة الصورة والميديا الحديثة ووسائل التواصل الاجتماعي والمنتديات، وغير ذلك من تجليات العولمة، خصمت من قيمة الكتاب، بل هناك من يرى أنّها خصمت من الأدب كلّه، فكانت القراءة المتعجلة «كالفاست فود»، وتحوّلت الأجناس الأدبيّة من الطول إلى القصر، ومن السعة إلى الضيق، فجاءت الومضة والأقصوصة والتغريدة.. كلّ ذلك قلق يعيشه المخضرمون ممن عاشوا قبل العولمة وبعدها. ماذا يقول البازعي في ذلك؟
ـ أقول إن هذا حاصل فعلاً، وهو جزء من السيولة المابعد حداثية التي يتحدث عنها البولندي باومان، أي السيولة التي لا تستقر على شيء بسبب السرعة والقصر. لكن هذه لم تلغِ - والحمد لله - بقية الأنماط الثقافية، سواء في الكتابة أو التلقي. ما زالت الرواية تكتب بمئات الصفحات، وما زالت الكتب تنشر متعددة الأجزاء، وكذلك القصائد الطويلة والأبحاث المعمقة الطويلة أيضاً، وهناك الكثيرون ممن يبحثون عن تلك الأعمال ويقرؤونها ويكتبون عنها. سيظل هناك من يجري مع التيار دون تفكير، وكذلك من يتأني ويفكر ويقاوم السيولة بحثاً عما يمكث في الأرض.
ولادتي كانت مصادفة في القريات
* لو عدنا للعام 1353هـ لشهدنا هذا السعد تحبو به ذواكر الطفولة عند بوابة الوطن الشمالية «القريات» من حصير بيت الطين لأروقة جامعة الملك سعود التي ألفت وجهك طالبًا ثم أستاذًا نشر العديد من البحوث والدراسات، وتعرشت كرسيَّين، أما أحدهما فشوريًّا، وأما الآخر فأدبيًّا. سعد الطفل والمسؤول والمبدع والإنسان وأشياء أخرى نترك له أن يقولها ويدلي بدلوه ملقيًا بوعائه في محطات العمر متكئًا على وشم ووسم الذواكر بما مضى وشحذه المستقبل وإشراقاته الحلمية التي يدثرها برداء الأمل المنسوج للغد؟
ـ هنا طلب لكتابة سيرة وإن باختصار، طلب يطيب لي أن أسعى في مناكبه كما سعيت مرات ومرات دون أن أرزق بما يبل الريق. لكني أحسب أن ومضات من تلك السيرة لم تتوقف عن التناثر هنا وهناك، مرة في مقدمة كتاب وأخرى في ثنايا ورقة بحثية أو مقالة صحفية، وبطبيعة الحال في بعض النصوص والرسائل الشخصية الكثيرة التي أحتفظ ببعضها وفقدت البعض الآخر. أعتقد أن الإنسان يكتب سيرته باستمرار وإن لم يأتِ ذلك بالصورة المباشرة أو التقليدية الواضحة. ما نختاره من موضوعات ونقرأ من كتب ونقترب منه أو نقع في حبه من أشخاص، وما نلمح إليه من أحاسيس، وأهم من ذلك ما يتوارى بين أسطر نصوصنا من حنين أو قلق أو حب أو خوف، في كل ذلك ملامح من شخصية تتوزع مثل أحجية الصور المقصصة التي تنتظر من يجمعها. وكم حاولت أن أفعل. ما نجحت فيه هو اكتشاف أن الكتابة عن الذات هي أصعب أنواع الكتابة، بالنسبة لي على الأقل، وأظنها من الأصعب على الكاتب بصفة عامة.
القريات وُلدت فيها، ولكني لا أعرفها، وكانت ولادتي بالمصادفة، أي بسبب زيارة والدتي - رحمها لله - لخالي الذي كان أميراً لها. بعد ذلك عشت طفولتي في الشمال لوجود والديّ - رحمهما الله - هناك. لكن لأن كليهما لم يكن في مسقط رأسه، أو في المنطقة التي ولد بها، فكان طبيعياً أن نعود إلى وسط الجزيرة، إلى الرياض حيث معظم الأقارب؛ لأمضي السنوات هناك، طفلاً وتلميذاً وطالباً، ثم زوجاً وأباً وجداً، ومشاركاً بين ذلك في هموم التعليم والثقافة والإبداع. هي حكاية متعددة الفصول والوجوه والتطورات، ككل حكايات الحياة, قد أجد القدرة يوماً على تدوينها بصورة أكثر إقناعاً وإمتاعاً.
رغم فصل الثقافة إلا أنني متفائل بحذر
* طالبت في العام 2012م في توصية رفضها مجلس الشورى، وطويت راية جهادك الثقافي الذي آمنت به، وأخفض هذا الصوت رغم بسالته ردحًا وصدحًا في ميدان الشورى بفصل الثقافة عن وزارة الإعلام، وإنشاء
هيئة عليا للكتاب ما رفض حينه, والآن بعد أن تحقق ما كنت تتطلع له بإرادة ملكية هل لك أن تورد لنا ما هي مسوغات الرفض في ذلك الوقت؟ وما هي الرؤى التي زجيت بها في ذلك الزمن؟ وأنيًا ما هي أهم التطلعات والمقترحات التي صففتها على طاولة أول وزير للثقافة كرافد من الروافد تهدي إليه للارتواء وجدولًا ومطرًا، وجميعها تصب في بوصلة واتجاهات غراس وأرض وثمار المثقفين والمثقفات في هذه البلاد؟
ـ ما طالبت به في الشورى كان مطلباً سبق طرحه من قبل زملاء آخرين، لكن كُتب لتلك المطالبة، أو جزء منها، أن تتحول إلى توصية/ قرار من المجلس. الرؤى كانت واضحة؛ لأن المطالب كانت مطالب لكثير من المعنيين بالشأن الثقافي؛ فهي تعني مأسسة الثقافة، ودعمها بكيانات تزيد من تفعيلها، وترفع من مكانتها، وتحمي حقوق المنتمين إليها. أما الرفض فلم يكن من المجلس، ولا أعلم الأسباب وراءه.
في الوقت الحالي تأتي وزارة الثقافة منفصلة عن الإعلام، وكنت ممن وضعوا التصور لولادتها حين كانت قرينة للإعلام، والتصور مليء بالأحلام والمطالب، لكن اتضح أن المطلوب أكبر من أن يتسع له الواقع أو الممكن. وكم تكرر ذلك الاكتشاف مرة تلو الأخرى دون أن نتوقف عن المطالبة أو يخبو في تطلعاتنا الأمل. لكن على طريقة دون كيخوته، كما يبدو. ومع أنني من المتفائلين بحذر فإني ما أراه حولي يزيد من معدل الحذر بدلاً من خفضه، حتى بات التفاؤل عبئاً. هل في وسع الكيان المفصل من الثقافة أو هيئتها أن يفعل ما لم يفعله الأوائل؟ أتمنى ذلك لكني لم أرَ حتى الآن أي مؤشرات على ذلك.
الحذار لتوهمك بأن خمسمائة ألف يصنعونك مفكرًا نخبويًّا *
* مضت الحياة ببعض النخب الثقافية التي هتف لها وضدها الجماهير بين مبشر ومحذر وقائل أبدع ومؤل يتهم بأنه مبتدع غير أنهم وكلنا يعلم أنهم ظلوا هم المحركين الحقيقيين لجماهير الرأي، وهم أضواء الشأن الثقافي، وبعد ثورة «السوشيال ميديا» ولغتها ومنصاتها ونوافذها أحدث وازع أو المبرر اقتضاه الحال ومال إليه المآل؛ فتبدلت لغة ما كان يعرف في ذلك الزمن القريب «النخب الثقافية التي اعتلت المنابر الثقافية في الأندية الأدبية والصحف والبرامج الإذاعية والتلفزيونية، واستعابت نخبويتها، واغتنت بقناعات لبوس الشعبية والفاقة والزهد أنفس الحراك الذي كان هناك، انتقل هنا، انكسر الضوء للشارع وزحمة الآراء في الهاش تاق؟
ـ انتهاء النخب الثقافية وهم تفشى بانتشار شبكات التواصل الاجتماعي، وظن البعض أن مجرد تمكنه من فتح حساب وقول ما يريد، بل بعض ما يريد يكفي لتحقيق التأثير الذي كان للنخب. لكن اكتشاف أن خمسين أو خمسمائة أو خمسة آلاف أو حتى خمسين ألف متابع أو وجود صفحة فيسبوك بأصدقاء من كل مكان لا يكفي لاعتلاء منصات الفكر والرأي والإبداع. بقي مستوى ما يقال وأهميته أو خطورته فيصلاً حدد هوية النخب في الأساس، والأقرب أن يبقى كذلك. النخب ليسوا أهم من في المجتمع، ولكن نخبويتهم لم تأتِ من فراغ، فهم أهل الفكر الاجتماعي والسياسي والأدبي، هم المبدعون وأهل الرأي الذين قادوا المجتمعات، والانضمام إليهم متاح دائماً، لكنه يحتاج إلى موهبة وجهد. إنها حقيقة قد تزعج البعض، لكن التاريخ والواقع ما زالا يشهدان بها..
«أعد المادة وأرسلها لنا..» بين فن الممكن وجدية المحرر بتنا في الحضيض!
* انتقدت مؤخرًا في حسابك الشخصي بتويتر الصفحات الثقافية في صحفنا المحلية، ووسمتها بالفقيرة محملًا المحررين مسؤولية البحث في الكتب وإيجاد مقالات عميقة وندوات ثقافية في الوقت الذي يكتفون فيه بملاحقة الأخبار الصغيرة والقضايا، واستكتاب الناس حولها؛ ما أثار حفيظة عدد من الصحفيين الذين ألمح بعضهم إلى أن السبب يعود للنقاد أنفسهم، فما بين متعال وهزيل وغير مبال بالمواعيد التي تتطلبها الصحافة.. هنا دعني أذهب لتوسيع دائرة النقد لنطول المبدع نفسه سواء أكان شاعرًا أو قاصًا أو روائيًا.. أين هي النتاجات التي تنحني لها الرقاب وتنثني أمام صفحاتها الركب؟ وأين دوركم أنتم أيها النقاد أمام الروايات والدواوين والإصدارات؟ أليس الواجب أن يصل إليها القارئ العادي من خلالكم. أحدث هذا التصدير تحت عباءة النقد بشكل لافت وقبل هذا وهذا هناك الجهات الثقافية الحكومية، وهناك المسؤول. ما هو دوره حيال كل ما يحدث في حراكنا الأدبي والثقافي؟
ـ نقدي للصفحات الثقافية أو لمعظمها يبرره واقعها الحالي مقارنة بما كانت عليه. والسؤال ليس هل واقعها أفضل مما ذكرت، وإنما هو: ما الأسباب التي أدت إلى الواقع الحالي. لم يختلف معي أحد في أن الواقع ليس ما نتمناه. حتى الصحفيون أو مسؤولو التحرير يعترفون بأن الواقع ليس ما يتمنون، لكن بعضهم يختلف معي في الأسباب التي أدت إلى ذلك. فمنهم، وعدم قدرتها من ثم على تقديم عمل صحفي متميز، ليس ثقافياً فقط - فالثقافة عادة آخر هموم الصحافة وآخر صفحاتها - لكن على مستوى العمل الإعلامي كله (الخبر والتحقيق وما إلى ذلك). ولأنني أدرك هذا الوضع لم أتوقع من الصحافة أن تدعم العمل الثقافي كما كانت، وإنما تمنيت ألا يصل الأمر إلى ما وصل إليه؛ فالأمر ليس كله دعماً مادياً، وإنما هو نهوض بالممكن. هناك مشكلات تتصل بمستوى المحررين الثقافيين، وأخرى تتعلق بعلاقتهم بالوسط الثقافي، وسأعطيك مثالاً. المناسبات الثقافية التي تقام لا يكاد يحضرها أحد من العاملين في الصفحات الثقافية. يقولون لك: أعد المادة وأرسلها لنا، وسننشرها كما كتبتها. وهذا ما نفعله الآن في الملتقى الثقافي بجمعية الثقافة، وما تفعله مناشط أخرى. يأتي بعض المؤمنين بأهمية العمل الثقافي أحياناً، وأعرف بعضهم، وأقدر جهده. لكن الأغلبية ليس لديهم إما الوقت أو الاستعداد لأخذ هذا الأمر جدياً. وخذ مع هذا أمراً آخر: أين متابعة الإصدارات الجديدة؟ ماذا يكلف المحرر أن ينشر عن أحدث الكتب، وهي متاحة في معارض الكتب والمكتبات أو على النت؟ الحالة المثلى هي نشر مراجعات للكتب ليس بمبادرة من النقاد، وإنما بتكليف من الصحف، لكن لأنهم لا يريدون أن يدفعوا حتى مكافآت رمزية كما تفعل صحف العالم، فإنهم ينتظرون النقاد والكتّاب أن يقدموا مساهماتهم مجاناً، لأن أولويات الصحف لا تشمل هذا القطاع. ماذا سيضر صفحات ثقافية أن تعقد ندوة أسبوعية، تدعو إليها المعنيين، وتنشرها في الأسبوع التالي؟ السبب هو كسل المحررين ومسؤولي الصفحات. إنهم لا يريدون مزيداً من المشقة ووجع الرأس. أما النقاد فلم يترددوا في المساهمة حين كانت الصحافة الثقافية حية تنبض بالنشاط وتمتلئ دهاليزها بالزوار من كتاب ونقاد. نقدي للصحافة الثقافية نابع من حرصي على رؤيتها مرة أخرى تنبض من جديد، ليس بالضرورة بالإنفاق السخي وإنما بشيء من الجدية في العمل. كما ورد في السؤال، من يلقي باللائمة على من يمكن أن يثروا تلك الصفحات، أيلكتاب والنقاد، وقد يكون معهم بعض الحق في ذلك؛ لأن الصفحات الثقافية تنهض بنهوض المسهمين فيها. لكن تلك هي نصف الحقيقة. النصف الآخر هو ما بتنا نعرفه جميعاً، وهو الوضع الذي آلت إليه الصحف بانخفاض مواردها المالية من الإعلان.