تتعدد أنماط الولوج لفضاءات المعرفة، بين ولوج حتمي يتأتّى بطبيعة الحال مع تكوّن الإنسان الاجتماعي والمعرفي وبين ولوج اختياري أو انتقائي إن صحّ القول. وهو الذي يكون وليداً لتراكمات الوعي والمعرفة المتخصصة.
وحين نتناول الوعي والمعرفة كموضوع للحديث؛ فإننا لا بد وأن نأخذ بالاعتبار تجاوز أزمتين؛ أزمة المحددات أولاً وأزمة الدلالة والمعنى ثانياً. وذلك لارتباطهما الوثيق بالأيديولوجيا التي تصبغ هذا الموضوع بطابع النسبية.
قلق المعرفة وسؤالاتها، جدل المسائل وإشكالات النقد، الهيمنة كموجّه وربما مُشكّل للوعي.. قضايا شغلت سعد البازعي قراءةً ونقداً وتفكيكاً. فلم تقتصر أطروحاته المعرفية فقط على النقل والترجمة. على أنه تناول سؤالاً حول الترجمة ومدى قدرة أدواتها على نقل ثقافة بأكملها.
وفي ظل تتبعي لمسار الدكتور البازعي راودني تساؤل؛ هل كان البازعي يحاول صياغة أسئلته المعرفية لتحدد مساره؟ أم أنَّ أسئلته صاغت مسار أطروحاته؟
هو المُحتك بالآخر، الذي جعله ينظر للأشياء من حوله نظرة مزدوجة – أو بطريقة الثنائيات (أنا والآخر). ذلك أن الاحتكاك بالآخر المختلف لا يفرز عنه النظر لأنماط متنوعة من الآخر فقط، بل يُفضي إلى النظر للذات عبر الآخر، وأقصد هنا الذات الثقافية. تراوح البازعي خلال مساره على اعتبار اللغة أداة للنقد تارة وحقلاً خصبًا للنقد تارة أخرى، وهنا أطرح تساؤلي الثاني؛ كم بذل البازعي للتحرر من ذاته الثقافية من أجل الولوج لذات الآخر بحيادية دون تحيّز؟ وكيف لم يضل طريق العودة للجذور؟ ذلك أنَّ ثمّة من ابتلعهم الآخر أثناء انهماكهم في تفكيكه فلم يتمكنوا من أنْ يكونوا نقّاداً خالصين أو مخلصين لتمثلهم بالمنقود. وثمّة من عجز عن تجاوز ذاته وظل يعمل وفق مفاهيمه؛ دون النظر ما إذا كانت هذه المفاهيم تستطيع تقديم تفسيرٍ وافٍ أم لا. أثناء قرائتي للبازعي كان إدوارد سعيد يتجلّى لي بطريقةٍ ما، حين يتمثل البازعي الحس النقدي ويتحدّث عن قلق الإبداع في المشهد الثقافي كمحفز لبناء المعرفة والوعي وتاريخ مقاومة أشكال الهيمنة المُكبِلة والمُثبّطة للقدرات المعرفية، وشعور الاستلاب الكامن في الخطاب العربي ومدى حساسية المتلقي للتلقي وقابليته لإدراك الاستعمار الذهني المحكوم به. وأعود لأقول، إن العمل في فضاء الوعي والمعرفة والتجول في حقولها لا يتطلب فقط الجهد الدؤوب في الملاحظة المتواصلة بل عمراً من الاستقراء المُقارن، والقدرة على التكيّف مع الصراع الخطابي؛ أي تجاوز المسائل الانطباعية التي تفرزها عمليات التطبيع الثقافي من أجل الوصول إلى غاية النقد وجوهر المعرفة الإنسانية.
** **
لمى محمد البدنه - كاتبة وباحثة في علم الاجتماع والثقافة