أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: قال الإمام أبو محمد ابن حزم رحمه الله تعالى: «وقد جاأ النص عن الجن بأنهم أمة عاقلة مميزة متعبدة موعودة متوعدة متناسلة يموتون؛ وأجمع المسلمون كلهم على ذلك.. نعم والنصارى والمجوس والصابئون وأكثر اليهود (حاشى السامرة فقط): أجمعوا على ذلك؛ فمن أنكر الجن، أو تأول فيهم تأويلا يخرجهم به عن هذا الظاهر: فهو كافر.. قال الله سبحانه وتعالى: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي} [سورة الكهف/ 50]؛ وهم يروننا ولا نراهم.. قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ} [سورة الأعراف/ 27]؛ فصح أن الجن قبيل (إبليس) [لعنه الله].. قال الله سبحانه وتعالى: {إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} [سورة الكهف/50]؛ فمن ادعى أنه يراهم أو رآهم فهو كاذب إلا أن يكون من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فذلك معجزة)).. [الفصل 3/179]؛ ثم جزم رحمه الله بأنه لا سبيل إلى وجود خبر يصح برؤيتهم بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم.
قال أبو عبدالرحمن: ها هنا وقفتان: الأولى أن إنكار وجود الجن والشياطين، أو تأويل حالهم تأويلاً يخرجهم عن ظاهر النص.. كل ذلك كفر؛ هذا هو المذهب الصحيح، ولا تلازم بين الكفر والتكفير؛ فالتكفير نتلقاه من الشرع، والكفر لا نملكه إلا أن يكون تكفيراً لمن كفره الله.. إلا أن من كذب خبر الله ولا عذر له فقد كفر به، وقد تظاهرت النصوص وتضافرت بوجود الجن والشياطين مع ذكر أخبارهم؛ بل في القرآن الكريم سورة خاصة بالجن.. وتأويل النص بما يعلم المؤول نفسه أنه مجرد إدعاإ: إنما هو من باب المحادة لشرع الله، ومما يؤسف له أن بعض المعتزلة المدعين الانتساب إلى الإسلام أنكروا وجود الجن، وجمهورهم أنكروا آثارهم، وملابستهم بني آدم كما نجد في جدل القاضي (عبدالجبار بن أحمد) في كتابيه (متشابه القرآن)، و(تنزيه القرآن عن المطاعن).. وبعض الفلاسفة كـ(ابن سينا) أطلق لخياله العنان؛ فأنكر الجن والشياطين؛ وذلك بلا سلطان من الله ولا نور، وبعضهم كان خياليا أكثر.. ادعى أن الجن إنما هم الأرواح البشرية بعد مفارقة أبدانها؛ فبنى على الدعوى الباطلة تكذيب الله في موضعين:أولهما أن الله نص في سورة الزمر على أنه يمسك الأرواح التي قضى عليها الموت.. وثانيهما ما علمناه ربنا من أن الجن موجودون قبل بني آدم؛ لأن الله خلق آدم عليه السلام وهو أبو البشر وإبليس موجود، كما أخبرنا ربنا بأن إبليس من الجن.. وتجدون نماذج من هذه الضلالات نقلها (الكفوي) في كتابه (الكليات)، و(التهانوي) في كتابه (كشاف اصطلاحات الفنون)، وقبلهما (الرازي)، و(النيسابوري).. والوقفة الثانية عند تكذيبهم: زعمهم أن بعضهم رأى الجن؛ وهذا التكذيب ورطة من الورطات؛ وقد صحت تجارب البشر في رؤيتهم بالاستفاضة، ولا سيما من دلت شواهد الحال على صدقهم وأمانتهم وعدلهم كالإمام (ابن تيمية)، وكأشياخ من العوام الصلحاء.. وثبوت هذه التجربة ينبغي أن لا يروع أبا محمد؛ فيظن أنه ينافي قوله سبحانه وتعالى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ}؛ فإننا نقول: هذا بالنسبة للطافتهم التي خلقهم الله عليها، فإننا لا نراهم، ولكن الله أقدرهم على التكثف والتجسم والتصور؛ فحينئذ نراهم؛ فالمنفي في الآية الكريمة غير المثبت في التجربة البشرية؛ وفي رؤية الأنبياء عليهم السلام؛ بل قد يكون لرؤية الأنبياء خصوص؛ وهو رؤيتهم على حقيقتهم، فلا تكون الآية على عمومها؛ والملائكة الكرام عليم السلام لا نراهم، ولكن جبريل عليه السلام ظهر في صورة رجل حسن الوجه؛ فرآه الصحابة رضوان الله عليهم وهو يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أركان الإسلام.. وهكذا رسل الله من الملائكة عليهم السلام رآهم قوم لوط في صورة رجال؛ وكان لوط عليه السلام يحسبهم ضيوفاً حتى أخبروه بأنهم رسل الله.. وتناول الأدب الحديث قضية الشيطان؛ ليكون موضوعاً أدبياً: لا يخلو من العبث؛ فهناك عمل أدبي اسمه (بنت الشيطان) وقد أظهر الشيطان الرجيم على أنه ذو عمل خير؛ وقد تناول نقد هذا العمل من ناحية فنية وحسب (سيد قطب) في كتابه (كتب وشخصيات).. ورأيت الأستاذ (أحمد حسن الزيات) في كتابه (وحي الرسالة) يتناول قصة بعنوان (جلاد الشيطان) تنحل عقدتها بإنكار الصرع الذي ثبتت به أحاديث صحيحة؛ وإلى لقاء في السبت القادم إن شاء الله تعالى, والله المستعان.