عبدالعزيز السماري
لفت نظري طرح ثقافي لأحد المهاجرين الإسلاميين إلى دولة غربية، كان يقدم محاضرة عن رؤيته للمستقبل المدني للمسلمين في الغرب، وحذر من خلالها المسلمين في ضرورة البعد عن التفكير الأيدولوجي والصراع مع الأقليات، والعمل متحدين مع الجميع مهما كانت درجة اختلافهم في الدين والعقيدة من أجل مصلحة الدولة، ونصحهم بأن لا يستخدموا مصطلح إسلامي، والاكتفاء بمسلم، وأستطرد أن من الأسلم والأفضل استخدام تعريف جنسية الدولة الغربية..
كانت المحاضرة أشبه بالتراجع التام عما كان يطرحونه في الشرق العربي، فقد كانت أفكارهم تحمل مضمون الصراع مع الآخرين كقادة أو ممثلين للفكر الإسلامي ضد الضالين المخالفين لهم، وقد كان ولازال هذا الطرح أحد أهم أسباب عدم الاستقرار في دول الشرق العربي، فقد استغلت القوى العسكرية طرحهم الإقصائي و عادت إلى السلطة من خلال الدبابة في بعض الدول..
لازال الطرح الثقافي في المجتمع العربي مسيس وغير مستقر، فالمؤدلج دينياً يرمي مخالفيه بالكفر من أجل أن يفرض سلطته على الجميع، والمؤدلج بأفكاره القومية ومصالحه الخاصة يستخدم التخوين لإبعاد الآخرين عن الدوائر الضيقة للمصالح والسلطة في محيطه الصغير، والنتيجة حالة من عدم الاستقرار، والعودة إلى منطقة الصفر كلما تقدم المجتمع قليلاً في مشواره المدني.
العالم المتقدم تغير وتطور كثيراً، فالمجتمع المدني أصبح مطلباً للاستقرار، فالمساواة تحت مظلة القانون بدون تمييز طائفي أو ثقافي أو عرقي هو شفرة الانتقال من عالم يحكمه الصراع إلى آخر متطور ويحكمه الاستقرار، والتساؤل الذي أطرحه لماذا يختلف الطرح الثقافي والفكري للإسلاميين عندما ينتقلون للعيش في الغرب ؟،وهل يعني ذلك تغيير في القناعات أم مجرد تقية سياسية تعني توقف مؤقت عن سياسة التحريض والصراع مع الأقليات، وربما يكون شيء من ذلك، ومن ذلك..
من علامات الاستقرار في المجتمعات أن يصل الفرد إلى مستوى الوعي المدني، وهو وعي يرفع من قيمة الخير العام أو المصالح المشتركة، التي تعبر عنها مبادئ سيادة القانون وحقوق الفرد وعدم تقاطعها مع المبادئ العليا للوطن، فالغاية الأسمى أن ينعم الجميع في الاستقرار وتحت سقف متساو من الحقوق والمشاركة في تنمية أوطانهم، وهو طرح يخالف تماماً عن نظرية الصراع مع الأقليات والأكثريات التي كان يطرحها الإسلاميون والقوميون.
ما طرحه الإسلامي المتحول في محاضرته هو الوعي المدني بكامل هيئته، وهو أن لا تفكر سياسياً من خلال العقل الطائفي، الذي يقصي مخالفيك في قضايا الحريات و الحقوق العامة، والمجتمعات في الشرق العربي تمر في حالة وباء طائفي بسبب هذا الطرح، ويكاد يمزق مجتمعاتهم في صور مروعة، وقد نحتاج إلى معجزة ثقافية لتجاوزها خلال عقد من الزمان.
تساؤلي الآخر عن كيف يتنازل المؤدلج بهذه السرعة عن أفكاره القديمة بمجرد انتقاله من مجتمع تحكمه الأفكار القديمة إلى مجتمع مدني متطور، وكيف يتحول من مؤدلج بقضايا الخلافة والدولة الدينية إلى كائن مدني يعظ بأهمية العمل مع الجميع سواء كانوا يهوداً أو بوذيين من أجل مصلحة الدولة، وكيف تعلم مبدأ الولاء للوطن بعد كان ينعته بالوثن، ويحارب وحدته من الداخل.
أعتقد أن الإجابة في منتهى السهولة، فالقانون المدني الذي يحكم الجميع من خلال مواد واضحة يفرض التطور والانتقال من مجتمع الغابة إلى المجتمع المدني المتحضر قسراً ورغم أنف المخالفين له، وهو ما لم تصل إليه المجتمعات في الشرق، فالمطلوب وضع أسس مدنية منضبطة للمجتمع، وتعريفات مقننة للحريات و الحقوق، وهو ما سيجعل الجميع في نهاية الأمر سواسية تحت مظلة القانون المدني، وبالتالي إخماد أطروحات الصراع الفئوي إلى الأبد ..