عروبة المنيف
ياليل الصب متى غده
أقيام الساعة موعده
رقد السمار وأرقه
أسف للبين يردده
هكذا صدحت الفرقة الموسيقية متغنية بقصيدة القيرواني، والتأنق يميز جميع أعضائها، متوشحين بشالات حمراء مزركشة بخيوط ذهبية، يؤدوون الموشحات الأندلسية بإتقان مبهر، في فعاليه مميزة بالمقهى الثقافي التابع للجمعية السعودية للثقافه والفنون.
انتقلنا في تلك الأمسية - من خلال إبداعات المنشدين وعزفهم - إلى الأندلس وعظمتها، إلى قرطبة عاصمة الخلافة الإسلامية، إلى مسجدها وقنطرتها، إلى غرناطة و»قصر الحمراء» بزخارفه الإسلامية على الجدران والمزدانة بالآيات القرآنية، إلى مالقا و«مسجد الأندلس»، إلى إشبيلية و«قلعة شريس»، إلى طليطلة و«قنطرتها»؛ لنجوب مدن الأندلس ونستمتع في حدائقها الغناء، ونستنشق عبير الحضارة الإسلامية.
استعدنا في تلك الأمسية ذكريات علماء ساهموا في بناء الحضارة الإنسانية، كابن سينا وابن رشد والفارابي، ولاحت في مخيلتنا أشهر شعراء الأندلس أمثال: أبو البقاء الرندي، ابن زيدون، وولاّدة بنت المستكفي، تذكرنا زرياب «الموسيقار الشاعر» مطور الموسيقى والغناء. لقد كانت تلك الأمسية بأجوائها الموسيقية الطربية قادرة على تحريك الشعور بالذائقة الفنية وعلى تفجير ينابيع من الأشعار المغناة التي استقينا منها ولم نرتوِ!.
ظهرت الموشحات الأندلسية إبّان ازدهار الموسيقى في الأندلس، فنُظمت الموشحات التي تتميز بالجانب الموسيقي والجانب اللغوي كحاجة فنية وكظاهرة اجتماعية، فقد اندمجت مكونات ثقافية متعددة في بوتقة واحدة جعلت الأندلس مختلفة عن غيرها من الأقاليم الإسلامية. فالموشحات هي لون من ألوان الشعر الموسيقي، الذي يعد الغناء أحد أهم أركانه، وقد سمي موشحاً لأناقة الشعر فيه وتنميقه وتشبيهه بوشاح المرأة المزين بالجواهر واللآلئ، فيتم كسر الرتابة في القصيدة التقليدية «ذات القافية والوزن الواحد» عند نظم الموشحات لينتج عن ذلك شعر جديد تتعدد فيه الأوزان والقوافي؛ لذلك تعتبر الموشحات ثورة تجديدية في الشعر العربي التقليدي قام بها شعراء الأندلس لإدخال الموسيقى والغناء والبهجة والفرح للشعر والثقافة.
إن ذلك التقديم الحضاري والثقافي والفني المتميز، الذي بادرت فيه جمعية الثقافة والفنون، يعتبر من باكورة أعمالها في حقبة الانفتاح والتنوير الثقافي وفي ظل الرؤية، حيث امتزاج الثقافة بالفن والموسيقى، فالجمعية عريقة في قدمها، وفي أنشطتها، وفي برامجها، وقد عايشنا في تلك الأمسية لسويعات، التاريخ الأندلسي بعظمته وحضارته وشعره وفنه وطربه المميز الأصيل.
وتشهد الجمعية مؤخراً حراكاً جلياً، فقد أعلنت منذ أيام عن خططها المستقبلية للارتقاء بالمشهد الثقافي والفني في المملكة، ومن ضمنها الإعلان عن إطلاق أول معهد متخصص في الثقافة والفنون بمسمى «ثقف» في جميع أنحاء المملكة يهدف إلى تهيئة بيئة مؤسسية محفزة للارتقاء بالثقافة والفنون والآداب في المملكة، وسيتم التعليم والتدريب على «الموسيقى، وصناعة الأفلام، والتأليف، وكتابة الرواية، والفنون التشكيلية»، حيث سيمنح المعهد شهادات عليا كالدبلوم والبكالوريوس في تلك الفنون.
من دون شك ذلك التحرك الهادف للارتقاء بالمستوى الفني والثقافي بالمملكه بمهنية واحترافية، سيسهم في تخريج دفعات قادرة على إحداث تغيير إيجابي في السلوك المجتمعي، كتهذيب النفس والارتقاء الفكري، والإبداع لما للموسيقى والفنون من تأثير كبير على النفس. نتمنى للجمعية كل الخير ونتطلع لمزيد من الفعاليات المميزة.