د.فوزية أبو خالد
هناك حكمة تتوارثها الأجيال على مايبدو ويورثها الكبار للصغار كما ورثناها من كبارنا يوم كنا صغارا وها نحن نحرص بل نستميت في توريثها لصغارنا وتلك الحكمة التي لاشك عندي أنها مرت على أغلبنا هي تلك الحكمة القائلة « لاتؤجل عمل اليوم إلى الغد».
وأذكر أنه كان هناك قصة في أحد كتب مطالعة اللغة الإنجليزية للصف الأول متوسط تتحدث عن أب أراد أن يهدي لأطفاله حكمة فلم يجد أفضل من حكمة «لاتؤجل عمل اليوم إلى الغد» مما يعني أنها حكمة عالمية إلا أن بيت القصيد الذي لفت نظري وقتها هو رد الأطفال على الحكمة حين قالوا للأب إذن لماذا لانأكل الحلوى التي تريدنا أن نؤجل أكلها للغد اليوم.
وقد علقت القصة في ذهني من يومها وبت أفكر كلما نكأها مكان أو زمان في الكثير من تطبيقاتها الممكنة على عوالم مختلفة من جوانب الحياة من جانب العقل لجانب الوجدان ومن جانب السياسة لجانب الاجتماع والإعلام. فكما استطاع الأطفال أن يصلوا لتلك المعادلة الجميلة بين لذة العمل ولذة الحلوى فلا بد أن هناك مجالات جديدة لإعادة إخراج الحكمة بأشكال متعددة تعبر عن أنواع من التسابق المصيري بين علاقة الوقت بالفعل.
وفيما يلي بعض المحاولات الإحلالية لحكمة لاتؤجل عمل اليوم إلى الغد:
* لاتؤجل قول كلمة الحق إلى الغد فقد يترتب على تأجيلها بلغة الشعر تفرفط أجنحة وتشظي ريش كما قد يترتب عليها بلغة القانون الجنائي أحكام جائرة أو تضليل عدالة أو تنكيس أعلام
* لاتؤجل كلمة حب إلى الغد فقد ينجم عن تأجيلها تفرق قلوب وتبدد أحاسيس وقتلة نفس كان يمكن لكلمة حب بمشية الله أن تحييها أو تؤجل انطفائها
* لاتؤجل زيارة مريض إلى الغد فقد يعود أدراجه فتحرم من عيادة الرحمن وتحار جوابا حين يسأل الخالق لماذا يامخلوقي مرضتُ فلم تزرني. والأفدح أنه قد تفقد لحظة وداع وديع تستلمه حضوريا كان يخبأها لك القدر, بدل مفاجئة وداع قاسٍ ينقض عليك غيابيا لاسمح الله.
* لاتؤجل صدقة إلى الغد فقد تسبق صدقتك خسارة صحة أو حلال فتتلافاها عنك من حيث لاتدري وقد تطفئ صدقتك غضبة رحمن رحيم فلاتحمل بغضبه مالا طاقة لك به
* لاتؤجل إسعاد صديق إلى الغد فقد لاتملك غدا ما تملكه اليوم من أسباب السعادة وقد لايكون غدا بحاجة لما لم تستطع أن تقدمه اليوم
* لاتؤجل اتخاذ موقفا نقديا إلى الغد فقد تتلافى خرابا أو محاقا أو حتى خطأ بسيطا كان يمكن أن يمنع وصول ترامب إلى السلطة أو يحول دون خراب مالطا على يد سياسته المتذبذبة
* لاتؤجل تبليغا إلى الغد فتقطع الطريق على حادث مروع أو عثة لو استشرت فستعيث فسادا وتحول الخشب إلى نشارة والشجر إلى هياكل فارغة مسندة وماكان قامات إلى أوراق خريف متجعدة.
* لاتؤجل إعادة دين إلى الغد في استطاعة ولو لم يكن هناك سببا إلا احترام الذات بينك وبين نفسك فهذا كافيا.
* لاتؤجل إغاظة عدو إلى الغد ولو من باب النكاية إن لم يكن من باب الإحساس بالتفوق.
* لاتؤجل كلمة صادقة إلى الغد فلا حياد في حب ولاحرب ولا في شرف الكلمة. فالصديق الكاذب عدو مبين.
* لاتؤجل إصلاح إعطال صغير إلى الغد فقد تكبر الشرارة وتتحول حريقا ماحقا وقد تتحول حفرة صغيرة إلى هاوية سحيقة.
* لاتؤجل كتابة قصيدة إلى الغد فقد يهرب الإلهام وتتبدد الكلمات ويجف الحليب في الضرع كما قالت الشاعرة سلمى الجيوسي حين سألتها مجلة الفيصل في عددها الأخير، لماذا اكتفيت في تاريخك الأدبي بإنتاج ديوان واحد فأجابت، «كنت أؤجل الحالة الشعرية وحين أعود إليها في الغد أجد أنها غادرت ولم تعد تستجيب لنداء».
* لاتؤجل حلم اليوم إلى الغد فلكل يوم جديد أحلامه الخاصة من أحلام الصحو والمنام أيضا
* لاتؤجل عناق طفلك إلى الغد فقد يكبر فجأة ولم يتعلم المعانقة ليردها لك حين يسطو البرد عليك في شتاء العمر.
* لاتؤجل صفحا إلى الغد فالضمائر الحياة لاتنام وجراحها صاحية.
* لاتؤجل ما يحلو لك اليوم إلى الغد فما نحبه ونطيقه في عنفوان العمر قد نعافه أو نعجز عنه في مراحل لاحقة.
* وكأني برئيس التحرير يقول لاتؤجلي كتابة المقال إلى آخر لحظة فقد نستبعد المقال كما حدث عدة مرات هذا الشهر ولايكون هناك وقت للمطالبة بكتابة بديل.
* وأخيرا خارج السياق، لاتستلف صحة ولاوقتا ولامالا من الغد لليوم فقد لاتجد ماتستلف إن أسرفت ولو كنت على نهر جاري.
تنبطق على هذا المقال نظرية باريتو أن لا تحمل الكتابة إذا تحرت الشفافية إلا عشرين بالمئة من قلق الكاتب.