كوثر الأربش
في 1 يناير من هذا العام، كتبتُ مقالاً بعنوان: «دردشة هادئة مع خاشقجي».. ولأنني أعرف السيد جمال، كما يعرفه معظمنا من خلال مقالاته، لأنني أعتبره أستاذًا في صياغة المقال، وقد حلمتُ يومًا بلقاء هذا الأستاذ الكبير.. وحدث هذا في أحد المؤتمرات الصحفية منذ مدة، لقد ازددت به شغفاً. كان قويًا، رحومًا، تشع ملامح الأبوة من وجهه المتعب. من أجل ذلك كله كتبت ذلك المقال. كنت أزداد حسرة كلما رأيته ينساب للجانب المظلم، كلما انزاح لمن لا يستحق الثقة، والحب، أعني تحديدًا، تميم وأردوغان، كنتُ أراه كبيرًا، أكبر من أن يشترى بمال، أو يُغوى بوعود ظاهرها العسل، وتبطن السم.
في مقالي، حاولت الوصول لنقطة عميقة في قلب هذا الرجل الذي اعتبرته أبًا، وعلى استحياء حاولت إعادة الحياة لشيء ما شعرت أنه قد مات.. قلت له: (يمكنك أن تهرب لأيّ بقعة بالأرض، تهبك جنسية، وامتيازات، قد تجتهد لتصبح أمريكياً، أوروبياً، أو روسياً.. لكنك تبقى ابن وطنك. وأنت خارج ديارك شيء ما بداخلك سيرتجف، حينما تشم بهارات جدتك، أو تسمع لهجة ديارك، أو تلوح لك ملامح تشبه تلك التي تعلو وجوه الناس في مكانك الأول. نقطة عميقة لا يمكن تفسيرها بكل نظريات الكون، إنه الحب.. الحب الذي لا يمكن أن يخلقه المنظرون والسياسيون والنقاد وهم يضعون إستراتيجيات وأنظمة وآليات إصلاح.. لأنه يمكن أن تصنع وطنًا عادلاً، لكنك لا يمكنك أن تخلق الحب له. المواطنون هؤلاء يشبهون اللاعب المحترف، الذي يمكنه تغيير لون القميص، وعقد مادي جيد أن يفقد إحدى قدميه أو يتعرض لإصابة مزمنة في سبيل إحراز هدف).
ويبدو أن مقالي وصل الهدف.. راسلني جمال للمرة الأولى، وكان معاتبًا. ومن هنا، بدأت سلسلة رسائلنا، التي كانت تتمحور حول «العودة للوطن».. قال: إنه يحب الوطن، قال: إنه خائف، وكنت أحاول أن أعرف مما يخاف؟ قلت له: إننا كلنا نكتب بمحض إرادتنا، ولا أحد سيتعرضك بسوء، وأن الشخصيات التي اعتقلت، لم يحدث لها هذا لأنها لم تتفق مع الدولة، بل لأنها خانت الوطن.. الخائن في كل زمن، مصيره مظلم. وهناك فرق بين الاختلاف والخيانة، بين اختلاس الأموال وبين النصح الرشيد. وأن قادة بلادنا أبوابهم مفتوحة، وسوف يسمعون لك.
عندما اختفى جمال، في تركيا، وجرت أحداث المسرحية المضحكة المبكية التي ألفها ومثلها، الإعلام القطري والتركي وبعض المرتزقة.. ورأيت، كما رأى غيري، منتهى الكذب، منتهى اللامنطقية، ومنتهى الاستغفال للمتلقي العاقل.. عرفتُ وقتها، مما كان يخاف جمال!.
ما أريد قوله، ما قاله الحمداني: «بلادي وإن جارت عليّ عزيزة».. في السعودية لا نختطف الناس، لا نأخذهم غيلة. حين تم القبض على خونة الوطن، حين حبس المفسدون، حدث ذلك تحت الشمس، عرف العالم كله، كنّا واضحين، لا نحبك خيوط جريمة في الظلام. كما يغضب الوالد على ابنه العاق.. لكن، ما عساك أن تنتظر إن أعرضت عن أبيك، واتخذت لك من المجرمين أهلاً؟.. ستصبح خائفًا، وتعيش في الأفق الرمادي والمجهول.
العدو قد يغريك، ويعدك بالكثير، وقد يخلق لك وهمًا حميلاً بالحرية.. لكنها حرية زائفة؛ قد تنقلب لكابوس أسود حين تنوي التوقف، والعودة لأصدقائك، لديارك، ومن يحبك. إنني أراهن على الحب، وإعلم أن هذا لا يقنع السياسيين وأصحاب الأجندات التي لا تتحدث سوى بالأموال والمصالح. المصلحة قد تنتهي، الأموال تنفد، وحين يفنى كل شيء يبقى الحبّ.
لقد غبت يا جمال، وقلوبنا لك داعية. مهما اختلفنا، تبقى واحدًا منا، ونحن على الدوام بانتظارك.. تراك تقرأ الآن؟.. هل تقرأ ؟