عبدالعزيز السماري
لقد زودتنا طفرة الاختبارات الجينية خلال العقدين الماضيين برؤية مختلفة عن حياة الإنسان، وما يخفيه المستقبل عن صحته، كما يوفر لنا أيضًا معلومات ذات قيمة عالية قد تساهم في الوقاية من كثير من الأمراض، وكل ما يحتاجه المرء مسحة من داخل وجنتيه، تكفي لمعرفة خريطة جينات الإنسان، وما يكتنفها من أمراض.
يستخدم الباحثون هذه البيانات أيضًا لصقل أو تطوير علاجات جديدة تمامًا للأمراض التي ما زالت قابلة للعلاج، ومن هنا تبدو إمكانية علاج الحالات غير القابلة للشفاء، وأضحت أقرب مما كانت عليه في أي وقت مضى.
وكلما أصبح هذا الاختبار الجيني الشامل أكثر قابلية للوصول للجمهور العام (أي أن الاختبارات أصبحت ميسورة التكلفة وسهلة الاستخدام)، ومع تراكم البيانات والفحوصات قد يصل الإنسان إلى حقيقة إمكانية ترميم جينات الإنسان مبكراً، وهو ما قد يعني أن العمل الدؤوب قد يحقق في المستقبل البعيد إمكانية مكافحة الأمراض جينياً في مرحلة مبكرة.
إننا نقترب من عصر يمكن فيه إرسال المواليد الجدد إلى منازلهم بأكثر من رضاعة حليب أو بطانية، إذ يمكن للوالدين أن يغادروا بوصف جيني دقيق لأطفالهم، أو خارطة طريق للخطر لصحة الطفل، ليس فقط للأشهر القليلة القادمة، أو السنوات القليلة القادمة، ولكن لحياة الطفل بأكملها، لكن ذلك لا يعني حتمية الإصابة بها.
إذ يمكن في الوقت الحاضر التخفيف من المخاطر الجينية لعدد من الحالات من خلال نمط الحياة والبيئة وغيرها من العوامل التي يمكننا السيطرة عليها، ومثال ذلك أن خطر الإصابة بمرض السكري من النوع الثاني يمكن تعديله بالتأكيد، والعلم يدرك الآن (كما هو الحال مع العديد من الأمراض الأخرى) أن هناك أكثر من موروث جيني يجب أن نراقبها، فالخلفية الجينية خلف بعض الأمراض قد تكون متعددة أي كثيرة العدد.
لدى البشر آلاف الجينات في مواقع مختلفة في الجينوم البشري، وعندما يتعلق الأمر بتقييم المخاطر، فإن وجود الجينات التي نعرف أنها متورطة في ظروف معينة يكون متوازنًا مع الخطر بنسب مئوية، ويتم الإبلاغ عن المخاطر كاحتمال متوسط ومع تحديد معرفة المزيد من الجينات وعلاقاتها بالأمراض، فإن هذه التنبؤات المستقبلية ستصبح أكثر دقة.
هذا الطرح مهم أيضاً في مجال التنبؤ بالأمراض العصبية إذا كان الاختبار الوراثي يشير إلى احتمال إصابة شخص ما بمرض عصبي يفقده الإدراك، وإلى حد إعطاء الشخص فكرة عن متى سيبدأ في ظهور الأعراض، فقد يمنحه الوقت للتحضير، وكيف سيؤثر توقيت تلك المعلومات على كيفية عيش الشخص حياته.
هذه القفزة في مجال الطب تفتح الباب إلى شخصنة الطب، فالخطاب الصحي لن يكون بعد ذلك خطابًا عاماً، ولكن عبر تقرير صحي شخصي حسب خلفية الإنسان الجينية، فمخاطر التغذية وغيرها من العادات الغذائية تختلف من شخص إلى آخر، وقد نحتاج إلى عقد من الزمان ليتحقق هذا الفتح العلمي الكبير، ويصبح بعد ذلك الفحص الأول الذي يفتتح به الطبيب فحوصاته في العيادة.
الإشكال المحلي لم يتغير كثيراً في مجال التطوير الصحي، حيث إننا للمرة الألف نبدأ متأخرين، فالنمط الاستهلاكي لا يزال يسيطر على العقول، بينما من الواجب أن نبدأ من خلال مراكز متخصصة في هذا الشأن الحيوي قبل فوات الأوان، وقبل ذلك أن تكون بداية خالية من عوائق البيروقراطية وأمراضها, والله الموفق..