د.عبدالله مناع
في التاسع والعشرين من شهر أكتوبر من عام 1947م.. جرى تقسيم دولة فلسطين -بعاصمتها القدس الشرقية-.. برعاية دولة الانتداب (بريطانيا)، ودعم سياسي غير محدود من الرئيس الأمريكي الثالث والثلاثين (هاري ترومان)، امتد به إلى شراء أصوات ثلاث عشرة دولة من أعضاء الجمعية العمومية للأمم المتحدة لصالح مشروع التقسيم، ومع انسحاب (بريطانيا) من الأراضي الفلسطينية في الخامس عشر من مايو عام 1948م.. وتسليمها ما لديها من أسلحة وعتاد لدولة التقسيم المزور (إسرائيل)، الذي رفضهه العرب ودخلوا بدولهم (السبع) آنذاك في أول مواجهة عسكرية مع (إسرائيل) الذي أعطاها (التقسيم) 56 % من أراضي الدولة الفلسطينية -بينما أعطى التقسيم.. لـ(عرب فلسطين) 43 %-، والتي تملك من السلاح والعتاد ما لا تملكه الدول السبع مجتمعة.. فكان أن انتصرت، واعتبرت انتصارها.. هو يوم (استقلالها)!! وعيدها الوطني الذي تحتفل به كل عام.. بينما اعتبر الفلسطينيون ذلك اليوم.. هو يوم «النكبة» - الذى عرف تاريخياً بنكبة 48-.
منذ ذلك اليوم الموغل في القدم.. وسياسات الإدارات الأمريكية المتعاقبة تسير على خطى الرئيس هاري ترومان.. في تأييدها السياسي الدائم لـ(إسرائيل) إلى جانب دعمها اقتصادياً وعسكرياً حتى جعلت من جيشها رابع أقوى جيوش العالم بعد الجيش الأمريكي والروسي والصيني.. باستثناء بعض الرئاسات الأمريكية.. كرئاسة دوايت ايزنهاور الذي عارض العدوان الثلاثي على مصر عام 1956م، والذي استخدمت فيه بريطانيا وفرنسا (إسرائيل) كـ(مخلب قط) للعدوان على مصر بعد تأميمها قناة السويس.. أو رئاسة (جون كينيدي).. أو رئاسة (جيمي كارتر).. أو رئاسة (بيل كلينتون).. إلا أنه -ومع ذلك-.. كان يحسب للإدارات الأمريكية مواقفها الرافضة للاستيطان الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية بعد احتلالها لـ(كامل) فلسطين في حرب عام 1967م.. دون أن يرفع عليها فلسطيني واحد بندقية أو مسدساً، ولم يستردها للفلسطينيين إلا اتفاق (أوسلو)، الذي هندسه ورعاه وزير خارجية النرويج (جوهان هولست) مع مجموعة من المثقفين والأكاديميين اليهود والعرب عام 1993م لأنهاء الصراع العربي الإسرائيلي.. بعد فشل (مؤتمر السلام) الذي دعا إليه الرئيس جورج بوش الأب عام 1991م في مدريد.. مع سقوط الاتحاد السوفيتي، وانفراد الولايات المتحدة بـ(زعامة) العالم.
ومع إطلالة القرن الواحد والعشرين.. وفي عام 2002م على وجه التحديد.. جرى في اللجنة الرباعية لـ(حل النزاع الفلسطيني الإسرائيلي) برئاسة الرئيس جورج دبليو بوش الابن.. استبدال مصطلح (التقسيم).. بمصطلح (حل الدولتين اللتين تعيشان جنباً إلى جنب في سلام)!! والذي رحب به العالم كله من أقصاه إلى أقصاه.. وهو ما يعنى قيام دولة فلسطينية -معترف بها-.. إلى جانب دولة (إسرائيل)، ومع ذلك لم تعترف صاحبته به.. وكانت حجة الرئيس بوش الابن في عدم تطبيقيه أنه لم يجد في شخص الزعيم الفلسطيني (ياسر عرفات) رجل سلام.. وهو الذي تم (انتخابه) كـ أول رئيس للدولة الفلسطينية عام 1995م.. وفق تطبيقات المرحلة الثانية من (اتفاق أوسلو) الذي تم توقيعه في حديقة البيت الأبيض -أيام رئاسة الرئيس بيل كلينتون- بين رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين وياسر عرفات.. اللذين حصلا بعدها على جائزة (نوبل للسلام) مناصفة؛ ومع ذلك لم يجد فيه الرئيس جورج بوش رجل سلام ليتفاوض مع رجل السلام عنده.!! الإرهابي (أريل شارون) سفاح (صبرا) و(شتيلا) ورئيس وزراء إسرائيل آنذاك.
وهكذا..لم يطبق (حل الدولتين).. الأمريكي المنشأ، والذي تبناه العالم كله إلا صاحبته (الولايات المتحدة الأمريكية).. حتى بعد تغيير الرئيس عرفات، وإحلاله -ديموقراطياً- بالرئيس محمود عباس.. الذي غدا يسمى رئيس السلطة الفلسطينية.
معذرة.. لهذا الاسترجاع التاريخي الطويل الذي كان لابد منه لإيضاح مراحل حل النزاع الفلسطيني الإسرائيلي.. من رئاسة (هاري ترومان) الجمهوري وصولاً إلى رئاستي باراك أوباما.. الديموقراطي.. ورئاسة دونالد ترامب الجمهوري.. اللتين كانتا نغمتين مختلفتين ومتناقضتين في الإدارة الأمريكية.
فـ(الرئيس أوباما) الذى وصل إلى البيت الأبيض عام 2009م.. كـ أول رئيس أسود ليدير العالم من مكتبه (البيضاوي)، والذي جاءت به حملة (التغيير) الانتخابية.. بعد (بوش) الابن وورطاته السياسية الضخمة التي كان على رأسها احتلال العراق عام 2003م.. بحجة البحث عن (أسلحة الدمار الشامل) التي يملكها ويخفيها الرئيس العراقي (صدام حسين)، ويهدد بها العالم، والتي لم يجد لها المفتشون الدوليون أثراً على أرض الواقع.. ولكنها كانت (تعشعش) في مخيلة الرئيس بوش الابن، وصديقه البريطاني المؤيد له (توني بلير).. الذي كان يقول آنذاك وبجرأة عجيبة: إن بإمكان الرئيس العراقي أن يدمر بريطانيا في خمسة وأربعين دقيقة بأسلحة الدمار الشامل التي يملكها.
على أيّ حال.. كانت أول مظاهر (التغيير) في السياسات الأمريكية عند الرئيس أوباما.. هي تلك الزيارة الأولى له خارج الولايات المتحدة.. عندما توجه في الرابع من يونيه من عام 2009م إلى (القاهرة).. وإلى قاعة الاحتفالات الكبرى بها.. ليلقي في اليوم التالي الخامس من يونية خطابه الأول إلى العالم أجمع، والذي كشف فيه عن (صورة) العالم الجديد الذي تسعى إليه إدارته: (عالم.. لا يهدد فيه المتطرفون شعوبنا).. (عالم.. عادت فيه القوات الأمريكية إلى بلدها).. (عالم حيث يعيش فيه الإسرائيليون والفلسطينيون في أمان.. كلٌّ في دولته).. (عالم.. تحترم فيه الحكومات مواطنيها وتحترم حقوق الجميع).
كان الخطاب نغمة جديدة بما احتواه من أفكار وآراء في السياسة الأمريكية الجديدة، التي سيقودها من موقعه، وهو يركز على احتواء (العداء التاريخي) بين الإسلام والغرب، فلم ينتقص من قيمة خطابه خلطه بين الحروب الصلبية التي قادتها أوروبا ضد الإسلام في القرنين الثاني والثالث عشر، والحروب الأمريكية الأخرى التي خاضتها في القرن العشرين.. وهو يستشهد بالآيات القرآنية.. الواحدة تلو الأخرى لاحتواء ذلك (العداء) التاريخي الذي لم يعد موجوداً، وحل محله عداء آخر.. لأسباب أخرى.. عبر عنه نسف برجي التجارة العالمية في نيويورك، ثم أخذ يتحدث بـ(حميمية) عن معاناة الفلسطينيين مسلمين ومسيحيين.. بلغة لم تعهدها الرئاسات الأمريكية حتى في أعظم أيام الاعتدال الأمريكي تجاه الفلسطينيين وقضيتهم أيام (كينيدي) وكارتر وكلينتون.. وهو يندد بـ(الاحتلال الإسرائيلي وذله، وأنه لأكثر من ستين عاماً تحملوا آلام التشرد، وانتظر الكثيرون منهم فى معسكرات لاجئين في غزة والأراضي المجاورة.. بحثاً عن حياة سلمية آمنة لم يشهدوها).. وهو يضيف: (إنهم يتحملون الإذلال اليومي المصاحب للاحتلال. لذا فليس هناك من شك في أن الوضع بالنسبة للشعب الفلسطيني لا يحتمل، وأن أمريكا لن تدير ظهرها لتطلع الفلسطينيين المشروع للحصول على الكرامة، وإقامة دولتهم المستقلة).. حتى حسب سامعوه بامتداد المعمورة.. بأن الرئيس أوباما سينهى خطابه بـ(تأييد) حل الدولتين.. بل وبـ(الاعتراف) بـ(الدولة الفلسطينية)!! وهو ما لم يحدث بعد ذلك.. لا في دورته (الأولى) ولا في دورته الثانية، وكان أقصى ما فعله - طوال دورتيه- هو عدم استخدام حق (الفيتو).. في آخر جلسة من جلسات مجلس الأمن لـ(التنديد بالاستيطان الإسرائيلي في أراضي السلطة الفلسطينية وعدم الاعتراف به).. عندما امتنعت الولايات المتحدة عن التصويت ضده واكتفت بالامتناع عن التصويت، وهو ما مكن من اتخاذ القرار (2324) تحت البند السابع، وهو ما يمكن مجلس الأمن من إنفاذه ولو بـ(القوة).. إن استدعت الضرورة.
أما رجل الأعمال.. الرئيس الخامس والأربعين دونالد ترامب.. صاحب التصريحات المثيرة للجدل، والذي أخذ يلوح منذ الشهور الأولى من وصوله إلى البيت الأبيض.. في العشرين من يناير من عام 2017م. بعدم اعترافه بـ(حل الدولتين)!؟.. ثم أكمله في الخامس من ديسمبر الماضي بـ(اعترافه) بـ«القدس الشرقية» عاصمة لدولة إسرائيل!!.. ونقل السفارة الأمريكية من تل آبيب إليها.. بحجة أن ذلك «البند».. كان على رأس بنود حملته الانتخابية التي أوصلته إلى (البيت الأبيض).. والذي عارضته مائة وسبع وثلاثون دولة من دول العالم.. إلى جانب دول العالمين العربي والإسلامي.. بل والصحافة الأمريكية نفسها في تعقيبها على قرار الرئيس ترامب.. عندما قالت صحيفة (الواشنطن تايم): (إن الخطوة الأمريكية تجاه «القدس».. تعتبر معارضة لجميع القوانين الدولية، وأن الحل في النزاع الفلسطيني الإسرائيلي يجب أن يعود إلى المفوضات، والتأكيد على حق قيام دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها «القدس الشرقية»).
على أن المبشر في هذا الجدل السياسي.. هو ما تناقلته الصحافة الناطقة بـ(الإنجليزية).. عن أن الرئيس ترامب خلال تواجده في نيويورك لحضور اجتماعات الجمعية العمومية للأمم المتحدة السنوي.. عندما أعلن.. بأن (حل الدولتين) هو الحل في نزاع الشرق الأوسط!؟.. وهو ما يحمل على التفاؤل.. بإمكانية (تراجعة) عن الاعتراف بـ(القدس الشرقية) عاصمة لـ(إسرائيل)، وأن حلّ (الدولتين) سيجري تنفيذه خلال الشهور الثلاثة القادمة، وهو ما يعنى أن العالم.. قد أصبح أخيراً على مقربة من لحظة تاريخية كبرى.. بـ(حل) نزاع الشرق الأوسط، الذي ناف عن مائة عام.. منذ وعد (بلفور) في نوفمبر من عام 1917م.. إلى يومنا هذا.