أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: الملائكةُ جميعُهم عليهم سلام الله وبركاته: أخبرهم الله: أنَّه جاعل في الأرض خليفة؛ ولا يحل الخروجُ عن عمومهم إلا بدليل إنْ وُجِد.. ورُوِي عن ابن زيد رحمه الله تعالى: أنه ليس لله خلْقٌ في الأرض[؛والسماإ] إلا الملائكة؛ فجعل الله آدم عليه سلامُ الله وبركاته خليفة.. قال أبو عبدالرحمن: على هذا القول تعقُّبات: أولها أنَّ الآية إخبارٌ عن علمِ غيبٍ لا يُقبل إلا بخبر مرفوع ؛ وقد قال الله سبحانه وتعالى: {مَا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا} [سورة الكهف/ 51 ]؛ فوجود خَلْقٍ قبلهم أو بعدهم مِن غيب الله.. وثانيها أنَّه ليس من منهج المجتهد أنْ يقول: (ليس لله خلق إلا كذا وكذا)؛ وإنما منهجه أنْ يقول: (خلق الله كذا وكذا) مما نصَّ الله على أنَّه خَلَقه؛ وما لم يُنَصُّ عليه لا نُثْبِته ولا ننفيه؛ بل هو من غيب الله، ونعتقد أنَّ كل شيءٍ سوى الله خلْقُ الله.. وثالثها أنَّ القول: بأنَّه لا خلق قبل خلق آدم غيرُ الملائكة: ينافيه النصُّ: بأن إبليس كان من الجن، وأنَّه فسق عن أمر ربه؛ وهو مخلوق قبل آدم بضرورة النص.. ورابعها أنَّه ثبت في الحديث الصحيح: أنَّ في الأرض خلقاً من الجن أفسدوا قبل إهباط آدم..وخامسها أنَّ سياق الآية دلَّ على خلقٍ سابق قبل بني آدم أفسدوا وسفكوا الدماء، وهم غير الملائكة بيقين؛ لأنَّ الملائكة عباد مكرمون مُبرَّؤُوْن لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرونبلا زيادة ولا نقصٌ؛ فصح أنَّ هناك خلقاً في الأرض غيرُ الملائكة.. وعديد من العلماإِ الفضلاإِ بعد جيل السلف الصالح خاضوا في قضية عِصْمةِ الملائكة؛ والنصوصُ صحيحة ثابتة متواترة متظاهرة على أنَّ الله خلقهم وعصمهم من مخالفة أمره، لهذا فقول الملائكة: {أَتَجْعَلُ فِيهَا} لا يحل صرفه عن ظاهره؛ وهو أنهم عليهم سلام الله وبركاتُه استنكروا الخبرَ عن خَلْقِ خليفةٍ في الأرض متعجبين؛ لأنَّهم عَهِدوا كثيراً من الجنِّ أفسدوا في الأرض، وسفكوا الدماأَ، وعصوا ربهم؛ وكلُّ تأويلٍ غيرُ هذا التأويلِ لا تُطاوِع عليه اللغة؛ والله سبحانه لم ينف ما توقعوه؛ لأنَّ أكثر بني آدم أفسدوا في الأرض؛ وسفكوا الدماء؛ وإنَّما نَبَّههم إلى ما غاب عن علمهم من علمِ الله جل جلاله؛ وهو أنه سيكون منهم قائمون بأمره، عابدون له، وأنه ما خلقهم وما خلق الجنة والناربثاً.. والملائكةُ عليهم السلام ما تعمدوا استنكار ما يفعله ربهم جل جلاله؛ وإنَّما قالوا: {لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا}؛ وإنما ظنوا أن إخبار الله إياهم بجعل خليفة في الأرض جاأَ على سبيل استخبارهم، وأشفقوا من الفتنة في الاستخبار، وأن يكون اعتقادُهم بوجود خليفة إقراراً لما عرفوه من فِسقِ الجن وإفسادهم وسفكهم؛ فتقربوا الى ربهم باستنكار وجود خليفة مشفقين أن يقول لهم ربهم: أترضون بمن يفسد فيها؟.. فلما قال لهم ربهم: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}: علموا أنَّ الخبر الذي جاء بصيغة الاستخبار مسبوق بإرادة الله الذي قضى بأنْ سَيَخْلُق خليفةً لا محالة.. ولما طلب منهم ربهم الإنباأَ بالأسماإِ لاذوا بالعبودية؛ فقالوا: لا علم لنا إلا ما علمتنا؛ إذن لا يليق أن يُعتقد في ملائكة الرحمن عليهم السلام غيرُ هذا.. ولو أخبرهم ربهم بأنه سيخلق خليفة، ويُكلِّفهم بأمرٍ يتعلق بذلك: لفعلوا طائعين كما أخبر الله عنهم بإطلاق أنَّهم لا يعصون الله ما أمَرَهم، ويفعلون ما يؤمرون بلا زيادَةٍ ولا نَقْصٍ، ويخافون الله من فوقهم.. وإنَّما جاء الخبر مجرداً من التكليف، وهو: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً}؛ فظنوا أنَّ الصيغة سِيقت استخباراً، وأنَّ الله أرادَ أنْ يمتحن عقيدتَهم؛ فأشفقوا أن يكون رضاهم بجعل خليفة يعني رِضاهم بما سلف ممن خالَف وأفسد، وأن يكون ذاك لتقصيرٍ منهم؛ ولهذا أعلنوا لربهم أنَّهم يسبحون بحمده، ويقدِّسون له؛ فلما أعلمهم ربهم أن ذلك خبر، وأنَّ ذلك مقتضى عِلْمِه الذي لا يعلمه إلا هو: أذعنوا، ورضوا بقدر الله، وقالوا: لا علم لنا إلا ما علمتنا.. وأسند (السُّدي) في تفسيره إلى النبي صلى الله عليه وسلم: أنَّ الله لما قال للملائكة: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [ سورة البقرة/ 30 ]: قالوا: ربَّنا وما يكون ذلك الخليفة؟.. قال: يكون له ذرية يفسدون في الأرض!!؛ وإلى لقاءٍ في السبت القادم إنْ شاء الله تعالى، والله المُستعانُ.