د. جاسر الحربش
عندما تكون في مجلس ويدور حديث تستطيع المشاركة فيه بفعالية لكنك لا تفعل، فعلى الأرجح أنك كنت مكبوحاً عن المشاركة في الحديث العائلي أيام الطفولة. أثناء الدراسة في الغرب عانيت كثيراً من الخجل والتردد عن المشاركة في قاعات المحاضرات. لم أكن الوحيد فأغلب زملائي السعوديين كانوا مثلي، على النقيض من زملائنا الطلبة العرب والإيرانيين والهنود. الطلبة الأوروبيون كانوا الأكثر طلاقة وتجاوباً مع أسئلة الأساتذة حتى ولو كانت إجاباتهم خاطئة، بل وكانوا يضحكون على أنفسهم مع الآخرين عندما يعلق الأستاذ ساخراً على إجابات أحدهم. كان معنا طالب تونسي ارتبطت معه بزمالة السكن والمذاكرة ومراجعة المحاضرات، وكان يتفاعل بجرأة وثقة في قاعة المحاضرات دون الوجل من احتمال الخطأ وإضحاك الزملاء. كرر سؤاله لي لماذا لا أشارك في الإجابات على الأسئلة رغم معرفتي بالجواب الصحيح فأقول له إنني من النوع الذي يستمع أكثر مما يتكلم. كنت أناور للتغطية، والحقيقة أنني كنت مصاباً بعدم الثقة بالنفس، أي الرهاب الاجتماعي. تغلبت على المشكلة لاحقاً بمواجهة العقدة والدخول معها في عملية تحد مع تحمل النتائج في البداية.
ظاهرة الخجل الاجتماعي كانت أوسع انتشاراً في المجتمع السعودي، وما زالت لها بقايا ولكن أخف، ربما بسبب التعود على الحديث في الهاتف الجوال ووسائل التواصل الأخرى، وربما لأن السلطة الأبوية التي تكبح وتقزم شخصية الطفل تحولت إلى مستوى ثقافي تربوي أفضل. ما تزال القاعدة العامة أن الطفل والمراهق والشاب السعودي في المقابلات الاجتماعية والاحتفالية والتلفزيونية الميدانية يصاب بالارتباك وقلة الحيلة للعثور على الجمل والتعبيرات المناسبة، مقارنة بأقرانه المصريين والشوام والسودانيين والخليجيين وخصوصاً منهم أبناء الكويت.
يلفت النظر أيضاً أن الطفلة والمراهقة والشابة السعودية عادة أطلق لساناً وأكثر ثقة في النفس في مثل هذه المقابلات من الذكور، ربما لأن المجتمع الأنثوي الذي تربت فيه يستمع للأطفال بأريحية أكبر وأكثر انفتاحاً على الدردشة. الملاحظة الأخرى تتعلق بأطفال وصغار المجتمعات البدوية والقروية، فهؤلاء يتفوقون على أقرانهم من أبناء المدن في عفوية التفاعل مع الحوارات المفاجئة، وأحياناً تكون في ثقة بعضهم بالنفس جرعات زائدة عن المطلوب، ولكن ذلك شيء جيد يتهذب مع التقدم في السن والنضج.
حسب رأيي المتواضع لدينا أربعة مستويات، المستوى الذي كنا عليه في أيام الابتعاث في الزمن القديم وما زالت له بعض الترسبات التي تتضح أثناء اللقاءات الرسمية والإعلامية، ومستوى أطفالنا ومراهقينا وشبابنا الحاليين قياساً على أقرانهم مع العرب الآخرين، والمستوى الخطابي الأفضل لصالح الإناث على الذكور، فهن أفصح وأوضح في اللقاءات المفاجئة، وأخيراً التفوق في الحضور الشخصي العفوي لأبناء القرى والبادية على أقرانهم في المدن.
ما ذكرته حتى الآن مجرد انطباعات شخصية قد لا تكون هي السائد عند أغلب القراء، لكن مسألة الرهاب الكابح للحضور الشخصي رغم توفر المعرفة الكافية ما زالت إحدى ظواهر المجتمع الذي نعيش فيه، ولها بعض التواجد بين البالغين الذين يرتج عليهم أمام الميكروفون في التجمعات الجماهيرية لدرجة تصبب العرق.
الثقة بالنفس ووضوح الطرح من أهم مقومات الإقناع في كل الحوارات المحلية والدولية. حل العقدة لن يكون في البيوت، وإنما في المدارس بإدخال حصة يومية للحديث الحر بدءاً من الحضانة لتعويد الطفل والطالب على إطلاق ملكاته التي يفتقدها في بيئته المنزلية.