د. حسن بن فهد الهويمل
(الخطاب) لأي دولة, أو زعيم هو منهج الدولة, وموقفها من سائر الأحداث السياسية.
ومحاولة (التناص) مع مقابلة (ولي العهد) المتعددة المواضيع التي أجرتها مع سموه صحفية في (وكالة بلومبيرغ) بوصفه يمثل خطاب المملكة على كل الصعد, ويجمجم عما في نفوسنا, ويعبر عما يساورنا.
لم يكن الخطاب وقفاً على تصريحات (ترامب), إنه حديث شامل, يهم العالم أجمع, ويعرض جانباً من سياسات المملكة, والمتغيرات في ظل الرؤية المثيرة لفضول المراقبين, ولما كانت تصريحات (ترامب) جزءًا من أحداث المرحلة المعاشة, فقد عرَّج عليها المحاور, فكان جواب (ولي العهد) قاطعاً لقول كل خطيب. مطارحات الساسة, والمفكرين تكشف عن منطوياتهم, وتوجهاتهم, ومبلغهم من لغة التداول السياسي. أناس بارعون في صناعة الأعداء, وتكريس خطابات الكراهية, وآخرون بارعون في صناعة الأصدقاء, وإشاعة خطاب التوفيق.
كل (قوة) من أي نوع (مَفْرَزة) من جنود الله الآخذ بنواصيها:- {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ}. {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ}.
كل قوى العالم الناعمة, والخشنة. العسكرية, والاقتصادية, والإعلامية دُمَى على مسرح الكون, والله وحده المدبر:- {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْء}.
الحياة حلبة صراع, والصراع إكسير الحياة, وبدونه تخبو الحياة, وتخمل:-
(كُلَّما أَنْبَتَ الزَّمانُ قناةً... رَكَّبَ المرءُ في القناةِ سِنَانَا)
والتاريخ السياسي يرصد الجزر, والمد, ويقدم المواعظ, والتجارب لمن يوعظ بغيره.
كثير من الطيبين يظنون أن بالإمكان اعتزال المعترك السياسي, وتلمس الظل الظليل, ولهذا يبدو تذمرهم من الواقع المعاش.
قضاء الله, وقدره: إما أن ينفذه الإنسان, أو تنفذه أمم أمثالنا, أو تنفذه الطبيعة.
- الحروب ينفذها الإنسان الظلوم, الجهول.
- والأمراض تنفذها (الفيروسات) و(البكتيريا), وغيرها.
- والكوارث تنفذها الطبيعة, بأعاصيرها, وفيضاناتها, وزلازلها:-
{وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}.
إذا كان الأمر كذلك, فإن على المتنفذين أن يعوا طبيعة الحياة, وسنة التداول, والتدافع:- {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}.
ولهذا أوصى الله المطيعين بإعداد القوة:- {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ}. وكلمة (قوة) نكرة, والنكرة تطلق للعموم, بحيث تكون القوة تشمل قوة الأخلاق, والمواقف, والسلاح, والإعلام, والحجاج, وسائر محققات الوجود الكريم.
فالقوة العسكرية حين يتوفر عليها غير الأكفاء تدمر الذات, والغير:- {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ}. القوة المطلوبة تكاملية متوازنة رادعة.
لقد وعد الله بنصر المؤمنين:- {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ}. {ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ}.
ولما كانت الأمة الإسلامية في راهنها (أمة إسلام), لا (أمة إيمان) تخلف الوعد:-
{قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا}.
في إطار هذه المفاهيم المختلطة جاء التنازع الإعلامي من الوزن الثقيل.
فتلقى ركبانه المرجفون في الأرض.
وما كان بود أي عاقل رشيد أن يُصعد الخصام الإعلامي فيما بين الأصدقاء, وأصحاب المصالح المشتركة, ولكن لا بد مما ليس منه بد:-
(مكره أخاك لا بطل).
(المملكة العربية السعودية) لم تبدأ الخلاف, ولم يكن التناجي من خياراتها, ولا سيما أن ظروف المنطقة مشحونة بالتنازع, والتوتر.
وقادتها المجربون يتوقعون زلات الألسنة, وكلام الاستهلاك الإعلامي. ويفرقون بين لغة التخويف, وحديث الجد. لغة السياسة الإعلامية, ظاهرها للتلهية, والتنفيس, وامتصاص الاحتقانات, وذر الرماد, وباطنُها لا يعلمه إلا ذووا الشأن.
ومن ظن أن كل ما يقال يفعل, أضاع جهده, وماله, ووقته, وحمَّل نفسه فوق طاقتها.
والموتورون يطيرون فرحاً بمثل هذه المفرقعات الإعلامية. وما هي في النهاية إلا سراب بقيعة. بين (المملكة), و(الولايات المتحدة الأمريكية) علاقات متينة ضاربة في أعماق التاريخ, وبينهما مصالح مشتركة, تحميها مؤسسات عريقة في الدول (الديموقراطية). وكل الأطراف تعرف أهميتها, وسيطرتها على مجريات الأحداث.
ولأن (المملكة) قدوة في مواقفها, وأكثر حساسية لمكانتها الإقليمية, والعربية, والإسلامية, والاقتصادية, فقد بادر (ولي العهد), ووضع النقاط على الحروف, محاولاً لملمة هذه الإطلاقات الكلامية غير السوية, التي فُرضت عليه, ولم يبادرها.
مقابلة ولي العهد مع (وكالة بلومبيرغ) تبرهن عن بعد النظر, ورباطة الجأش, وهي بمجملها جزء من خطابات (المملكة) على كل الصعد, قدم (ولي العهد) هذا الحديث نيابة عن كل مواطن يؤلمه هذا التطاول, كما أراد به قمع كل شامت, يسترق السمع, وهو في النهاية بلاغ لكل أمريكي يحترم العهود, والمواثيق.
الرئيس الأمريكي محكوم بإرادة الشعب الأمريكي, عبر مؤسساته النيابية, والتشريعية.
وكم كلمة ملتهبة أطلقها (الرئيس) تحت وطأة الانفعال, والضغوط النفسية تشظت على صخرة الدستور, والقانون الأمريكي, وأجهضتها المصالح المتبادلة.
كلمات سمو (ولي العهد) الهادئة الهادفة. والمتزنة التوفيقية. والدفاعية الحذرة. تمثل لغة العقل, والعصر. فالمرحلة لا تستدعي التصعيد, ولا العنتريات.
أوضاع المنطقة تتطلب خطاب الدفع بالتي هي أحسن:- {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}.
سمعت كغيري فلتات (ترامب), وسمعت من قبله, وسمع غيري مثل هذا. ولم يزدني ذلك إلا ثقة بالله المتعهد بالدفاع عن أمة الإيمان.
ولو قيل مثل هذا بين الأطراف لما حرك ساكناً, فعلاقات (المملكة) مع (أمريكا) ليست سمناً على عسل, إنها علاقات مصالح, معرضة للجزر, والمد.
والمملكة لا (تبصم) على بياض, كما يتوهم الأغبياء. إنها تعطي, لتأخذ, تشتري الدعم (اللوجستي) مثلما تشتري السلاح. وتشتري التأييد, كما تشتري التحييد, وهذا نوع من الدفع بالتي هي أحسن, وركوب أهون الضررين:-
(إذا لَمْ تَكُنْ إِلَّا الأَسِنَةُ مَرْكباً ... فما حيلة المُضَطَرِّ إلَّا رُكُوبُها)
من حق (أمريكا) أن تزايد على دعمها للدول, لإقالة عثراتها الاقتصادية, ومن حقنا أن نقبل المزايدة, أو قدراً منها, أو نرفضها, فالمسألة مسألة اضطرار, وكل اضطرار يقدر بقدره.
(أمريكا) دولة عظمى, كل الناس يحتاجون إليها, وكل الناس يشترون منها السلاح, والتأييد, وكل ذلك قد لا يؤثر على سيادة الدولة, وأهليتها, وهي لا تدافع عنا, وإنما تذود عن مصالحها. أمريكا ليس لها وجود في الدول الفقيرة, والضعيفة.
(ولي العهد) ساءته التجاوزات غير (الدبلوماسية), وإن كانت المملكة ليست وحدها المقصودة بهذه المناورات الكلامية, التي قد تحرج أمريكا أكثر من غيرها.
خطاب (ولي العهد), خطاب (مكبسل), و(توقيعات) جامعة مانعة, تضع الطرف الآخر في زاوية الحلبة, وتحمله على مراجعة أشيائه كلها.
(نحمي أنفسنا), (نشتري السلاح بأموالنا), (قوتنا رادعة).
لقد أحبط برباطة جأشه, وبعد نظره, ودبلوماسيته الناعمة كل التطلعات المعادية.
وهو في حديثه المتوازن, رد الكرة إلى شباك الخصم, وعاد ليقرأ ذاته من جديد, ويعيد ترتيب أشيائه, لمواجهة أي احتمال.
أمريكا حليف (إستراتيجي) لا يجوز التفريط فيها:-
(ومَنْ ذَا الَّذِي تُرْضَى سَجَاياهُ كُلَّها). و:-
(إِذَا كُنْتَ فِي كُلِّ الأمُورِ مُعَاتِباً... صَدِيقَكَ لَمْ تَلْقَ الَّذِي لا تعاتبه)
لا أحد يود التصعيد مع من هو دون (أمريكا), الناس أجمعون يلعنونها في العلن, ويناجونها في السر, وفي ود الجميع كسبها.
هذا العصف الذهني من (ترامب) يحدوا بالعقلاء إلى المهارة في كسب الأصدقاء, والحلفاء, وتعدد مصادر التسلح, مع الاحتفاظ بـ(أمريكا) كحليف إستراتيجي قوي.
لم أشأ نقل مقاطع من الأشواط الدلالية لهذا اللقاء المثير, الذي ركز على النفط كسلعة (إستراتيجية), وعلى (شركة أرامكو), بوصفها العامل المؤثر في سوق النفط, فكل المعنيين تابعوه, وقرؤوه بعيونٍ متعددة, وخلفيات ثقافية متنوعة. ومهما اختلفت الآراء حول هذا الحوار, فإنه في النهاية شفى صدور قوم مؤمنين.
إنه حديث شامل غَطَّى قضايا تَهمُّ العالم, وتعريجه على تصريحات (ترامب) إحباط لكل الشامتين.