م. بدر بن ناصر الحمدان
المطارات لم تعد مجرد بوابة للعبور، ولا مقصدًا للقدوم والمغادرة، بل باتت معيارًا رئيسًا لمستوى جودة إدارة المدينة؛ فيها تُصنع ذاكرة المكان، وتكون الصورة الذهنية، ومن خلالها تقاس ثقافة الشعوب، ومرتبة تحضرها. هذا المؤشر الحضاري استوعبته الكثير من المدن على مستوى العالم منذ زمن مبكر، واستثمرت في هذه المنشأة الأهم على مستوى المدينة، ووظفتها بصورة عملية ومباشرة اقتصاديًّا وثقافيًّا واجتماعيًّا، واستطاعت أن تسوِّق من خلالها هويتها الثقافية والاجتماعية والاقتصادية إثر ما منحته من «أهمية» و»وأولوية».
في المقابل، ما زالت الكثير من المدن تعيش حقبة «مظلمة» و»متخلفة» في غياب تام ومعزل كامل عن هذه المعادلة التي لم تعد تقبل القسمة على اثنين نظرًا إلى افتقار هذه المدن إلى الحد الأدنى من أبجديات الإدارة المكانية وإدارتها وتشغيلها دون تفسير واضح لتقاعسها عن الاهتمام بمطاراتها، وتحسين بيئتها وبنيتها التحتية ونمط إدارتها. بعض هذه المطارات صارت «مخجلة جدًّا»، وتحولت إلى أماكن «بائسة» و»كئيبة»، ولا ترتقي حتى إلى أن تحمل اسم «مطار»، فضلاً عن كونها تمثل جواز سفر للمدينة التي تحتضنها.
زرتُ العديد من دول العالم، وبحكم تخصصي في تخطيط وتصميم المدن وإدارتها كنت أحرص بشكل دائم على محاولة فهم أي مدينة من خلال «مطاراتها»؛ شخصيًّا أعتبرها معيارًا رئيسًا لمعرفة العقلية التي تدار بها تلك المدن. وكثيرًا ما أجد ذلك التوافق والعلاقة الطردية بين جودة المطار والمدينة إلا في حالات نادرة؛ قد يحدث فيها تباين بين ذلك لأسباب استثنائية. الأمر الآخر حتى إن كانت المدينة ذات مستوى أقل في مستوى بنائها الحضري، وكان مطارها متفوقًا عليها، فهذا يمنح قراءة مختلفة، تكمن في أن هذه المدينة من خلال مطارها المتفوق تقدم رسالة فحواها أنها لم تصل لتحقيق طموحاتها بعد، ولكنها ماضية في صناعة مستقبل أفضل.
كثير من مطارات العالم هي تجربة سياحية بحد ذاتها؛ لذلك نجد كثيرًا من المسافرين يضعها خيارًا رئيسًا لرحلة «الترانزيت»، بل يتعمد أن تكون فترة التوقف طويلة للاستمتاع بمرفقاتها وخدماتها، وقضاء وقت ممتع بها. وفي المجمل، فإن ذلك يوفر عوائد اقتصادية للمدينة، ويمنحها فرصة لتسويق مقوماتها وثقافتها للمسافرين القادمين من كل أنحاء العالم، بل إن بعض المدن بدأت تفكر في أن تجعل المطار جزءًا من المدينة، وتُدخل حيزًا من العمران المجاور لحدود نطاق المطار (مشاريع استثمارية على هيئة مدن تابعة للمطار)، وتمنح هؤلاء المسافرين فرصة التجول فيها دون الحاجة لإجراءات دخول، إضافة إلى تحويلها لمقصد ترفيهي للسكان المحليين.
الأهم من ذلك كله: يفترض ألا تمتلك المطارات - سواء كانت ذات إدارة حكومية أو خاصة - الحق المطلق في التحكم بنموذجها التشغيلي وخططها التنفيذية؛ باعتبار أن المطار ليس منشأة مستقلة بذاتها، بل هي مركز نمو مرتبط بمنظومة عمرانية متكاملة، تؤثر وتتأثر بالمدينة الأم؛ لذلك يجب أن تعي إدارة المدينة أنها مسؤولة عن مستوى أداء مطاراتها مهما كان نمط الإدارة المحلية القائم؛ إذ لا يمكن المغامرة بسمعة واقتصاد مدينة ما بسبب إدارة مطارات «غير مؤهلة» لاستيعاب هذه الفلسفة التنموية.
خلاصة القول: إذا أردت أن يكون لديك مدينة جيدة فعليك ببناء مطار متطور.