عبد الرحمن بن محمد السدحان
* تواجه أمتنا الإسلامية المعاصرة منظومةً من الأزمات، بعضُها ظاهر، وآخرُ مستتر. فهناك من يسمّيها أزمة فكر بشكل رئيسي، إنتاجاً وإبداعاً ورواجاً، وهناك من يصفها (بالخلاف) حول بعض القضايا أصُولاً أو فروعاً، وثالث يصفُ (الأزمة) بأنها إفرازاتٌ لظاهرة الإخفاق في تحقيق حدّ معقولٍ مما يصْبوُ إليه الإنسان المسلم نحو حياة أفضل. ويزداد الأمر سُوءاً حين يُحمَّلُ (الدّينُ) ظُلماً وزْرَيْ التخلف والإخفاق في تجاوزه!
* * *
* وقد تعرضتُ لحمّى هذا السؤال قبل حين، فوصفتُه بأنه سؤال قاسٍ، يستحقُّ أن يُفردَ له كتابٌ أو أكثر، وأحسب أن المكتبة العربية زاخرةٌ بمصنّفات تَتناول موضوعَ السؤال من مداخلَ مختلفة، وطروحاتٍ متباينة، ولكن هل تم استيعابها واستلهام معانيها بحثاً عن جواب يمنح النفس طمأنينةً وأمناً؟!
* * *
* هناك إذن ما يشبه الإجماعَ على وجود (أزمة) من نوع أو آخر في دنيا المسلم، لكن المنتمين إلى هذا الموقف يختلفُون في تشخيص هوية تلك الأزمة ومفرداتها وأسبابها ونتائجها، مثلما يختلفون في وصف العلاج لها.
* فهناك من يعرّفُها بالابتعاد عن الله، والإغراق في فتن الدنيا، مَصالحَ ولهْواً، وأحسبُ أن في هذا الموقف، رغم عمُوميّتِه، قدراً كبيراً من الحقيقة لا يعافها إلاّ ذو عقلٍ سقيم.
* * *
* وهناك من يعرّفُها بالإخفاق في تحقيق توازنٍ سويّ بين معادلة الدين الحنيف، وتحدّياتِ العصر الحديث، حيث انقسم الناس إلى ثلاث فرق على الأقل:
1) فرقة (الاستلاب) بكل ما هو حديث والاستسلام له، و(الهجرة) إليه بعيداً عن الجذور. والأخذُ بهذا الجانب سيُفْضِي إلى هزيمةٍ مريعة للذات المسلمة!
* * *
2) فرقة (الاغتراب) صوبَ الماضي، هَرَباً من تحدّيات العصر وأزماته، وخوفاً من (الانزلاق) في متاهة التناقض بين طقوس العصر وما ترتبه هُوية الالتزام بالدين، كما تراها، مبدأً وممارسةً. ويختزلُ المنتمُون إلى هذه الفئة خياراتِ العيش إلى نمطيْن لا ثالثَ لهما: إمّا (الإغراقُ) في كل ما هو حديث، وهو أمرٌ مرفوض، وإمّا (الانغلاقُ) ضد كل ما هو حديث، وهذا نهج يتحفظ عليه كثيرون تحفّظاً يقْترب من الرفض له!
* * *
3) وهناك فرقة ثالثة يدّعي أفرادها (الانتماء) إلى الإسلام مظْهراً فحسب، لكنّهم يعانون قدراً من الانفصام رُوحاً وسلوكاً، فهم لا إلى هؤلاء ولا إلى أولئك، ويبحثون عن صيغة توفيقية أو «تلفيقية» تُنهي أزمتَهم وتحقّقُ لهم (التوازنَ) المطلوبَ بين الدين والحياة. وقد تأتي فرقة رابعة أو خامسة بتفسيرات أو تأويلات أخرى.
* * *
* هنا، أعود إلى مضمون السؤال المطروح في هذه العجالة الفكرية فأقول: إن مسألتيْ الخلاف في أُطر فكرِ المسلم المعاصر والإخفاق في تحقيق طموحاته اللّتين خصّهما السائلُ بالذكر، تدخلان ضمناً تحت مظلة الفجوة الناجمة عن الإخفاق في استيعاب المضامين الحقيقية السامية للدين الإسلامي الحنيف، كمعادلة للداريْن، العاجلة والآجلة من جهة، والتكيّف العقلاني المدروس مع متغيِّرات العصر وتحدياته، من جهة أخرى، وهذا في ظني، أبرز مؤشرات الأزمة التي يعيشُها مسلمُ اليوم، وأحسب أنها لن تنتهي طالما عانى المسلمُ المعاصرُ حالةً من (الغربة) بين هُويته الدينية، وحيثيات العيش السويّ في هذا العصر المتخم بالاكتشافات والتغيّرات التي لا تصبر على «طعام واحد»، كمّاً أو كيفاً!
* * *
وبعد..،
* ففي تقديري الجازم أن مُسلمَ هذا القرن (مطالبٌ) بالمحافظة على هويته الدينية، وفي الوقت نفسه، التعامل بحكمة وإبداع مع متغيّرات العصر بما لا يتناقض مع هويته الدينية أو يفسدها.