د.عبدالله مناع
«ديفون» التي اختلف إليها كل (صيف) بـ(لغة) الدكتور طه حسين الشاعرية.. ليست كـ(باريس) الساطعة، التي تعتبر بحق جميلة جميلات مدن العالم وعواصمه.. والتي يشتاق لرؤيتها سكان المعمورة جميعاً.. فضلاً عن حلم السكن والإقامة فيها.. ولو لأيام معدودات!! وهي ليست كمدينة (ليون).. المتأنقة في كل مفرداتها، والتي تسهر مصابيح شوارعها وميادينها طوال الليل وإلى الفجر.. وعلى غير ما تفعله كل المدن الأوروبية، وهي ليست كـ(مدينة جرينوبل).. مدينة (الاقتصاد) وكلياته ومعاهده ومدارسه العليا، التي تزدحم أحياؤها وشوارعها وميادينها بآلاف الطلبة الفرنسيين، وضعفهم من طلاب العالم أجمع الذين يقصدونها لدراسة علوم الاقتصاد و(الإدارة)، وهي ليست كمدينة (مارسيليا): ثغر فرنسا الجنوبي المطل على مياه البحر الأبيض، والمزدحمة بأعمالها وعمالها طوال ساعات الليل والنهار.. باعتبارها ميناء (التصدير) الأكبر والأهم إلى الشرق والغرب والجنوب الآسيوي.. ولكنها مدينة صغيرة (طرفية).. على الحدود الفرنسية (السويسرية)، وقد كانت في سابق عهودها.. (منتجعاً) للمتقاعدين الفرنسيين.. ولذلك كثرت فيها ملاعب (الجولف) وأنديته، وقد تميز موقعها.. بقربها من مدينة (جنيف) السويسرية، التي أصبحت بعد الحرب العالمية الثانية: مقراً لمنظمات الأمم المتحدة الأربعة عشر.. كـ(منظمة) العمل الدولية و(الأغذية والزراعة)، و(الصحة العالمية) والمنظمة العالمية للأرصاد الجوية، والمنظمة الدولية لتنمية والتجارة.. إلى آخر تلك المنظمات الدولية الأربعة عشر.. فكان أن لجأ إلى سكناها عشرات العشرات من دبلوماسي العالم.. لأن تكلفة الحياة والمعيشة فيها أرحم من تلك التي عليها مدينة (جنيف) الباهظة التكاليف في كل صغيرة وكبيرة.. من السكن إلى الطعام إلى الاحتياجات الإنسانية الأخرى كالملابس ولأحذية وغيرها.. بل وإلى (فنجال) القهوة الذي لن تحصل عليه.. في أيّ مقهى من مقاهي الأرصفة في (جنيف) إلا بأربعة فرنكات سويسرية.. وهو ما يوازي الستة عشر ريالاً سعودياً...!! بينما تحصل على مثله في مدينة «ديفون».. بما لا يزيد عن فرنك ونصف.. أو «يورو» ونصف!!
وقد شد هذا التواجد الدبلوماسي الواسع والعريض.. أصدقاء أولئك الدبلوماسيين ومعارفهم إلى «ديفون»، فإلى جانب معقولية أسعارها.. كان قربها من كل المدن السويسرية الشهيرة والجميلة إحدى مزاياها.. كـ(مدينة كوبيه) التي تبعد عنها بـ(خمسة أكيال)، ومدينة (نيون) التي تبعد عنها بـ(تسعة أكيال) أو (ايفوار) التي تبعد عنها بـ(نصف ساعة) من النزهة في بحيرة (ليما) السويسرية الشهيرة.. أو كـ(مدينة لوزان) التي تبعد عنها بخمسة وعشرين كيلا.. وحتى مدينة (مونترو) الساحرة، والتي تعتبر هي إلا بعد عن (ديفون).. فإن الطريق إليها.. لا يستغرق أكثر من خمسين دقيقة على طريق كأنه مغطى بـ(الحرير) الفرنسي أو (الدوبلين) السويسري.. لتقفز أعداد، سكان (ديفون) من السبعة آلاف.. إلى العشرة آلاف دفعة واحدة).. كان من بينهم عشرات العشرات من عرب الجزيرة والخليج.. وفى مقدمتهم (الكويتيون) والسعوديون، الذين أخذت أعدادهم تتزايد خلال العقود الماضية.. إلى الحد الذي ألزم معه محافظ (ديفون) لإقامة حفل استقبال سنوي لهم في صيف كل عام: ليتواصل معهم.. وليستمع إلى أفكارهم وآرائهم حول (ديفون) وخدماتها التي حباها الله إلى جانب قربها من المدن السويسرية الشهيرة.. بـ(موقع) جغرافي متميز وفريد، فهي تقع عند (مرتقى) جبل (مونبلاه) الأوروبي الشهير- أو الجبل الأبيض: وهي تواجه على القرب.. بحيرتها الصغيرة (بحيرة ديفون) ذات الأربعة أكيالاً، والتي يتريض على ضفافها عشاق المشي من الكهول والشيوخ.. وعلى البعد (بحيرة ليما) السويسرية الشهيرة التي تطوقها أجمل المدن الفرنسية والسويسرية من (ايفيان) و(مونترو).. إلى (ايفوار) و(كوبيه).. إلى (ديجون) وجنيف عاصمة العواصم.. أما موجودات هذه المدينة الصغيرة (ديفون).. فهي تدهشك حتماً.. فإلى جانب فنادقها الكبيرة والصغيرة، وعياداتها، وصيدلياتها، و(حلاقيها) من النساء، ومتاجرها التي تجد فيها أحدث (الموديلات) البارسية، (وبقالاتها) التي تتعب من السير فيها.. ودارها السينمائية الوحيدة التي تقدم أفلاماً ناطقة بـ(الفرنسية).. أما الناطقة بـ(الإنجليزية) فإنه يمكن مشاهدتها في مركز (البلاكسير) الذي يتوسط المسافة بين (ديفون) وجنيف، ولذلك فإن أبناء هذه المدن الصغيرة - عموماً - كـ(ديفون) وغيرها لا يغادرونها إلى المدن الكبيرة.. لان بـ(مدنهم) الصغيرة هذه توفر لهم كل ما يحتاجون إليه.. وعلى عكس الحال في عالمنا العربي حيث تفتقد المدن الصيرة فيها لمعظم احتياجات أبنائها وسكانها، وهو «ما وسع» من حجم الهجرة إلى المدن الكبيرة فخلق التكدس والعشوائيات فيها؟!
لكن.. ربما كان أجمل ما في مدينة «ديفون»..هو هذا العدد الكبير من المطاعم والمقاهي.. على صغرها: فهناك مطعم (هندي)، وآخر (إيطالي) وثالث (صيني) ورابع (تايلندي) إلى جانب مطاعمها الفرنسية.. إلى جانب ما لا يقل عن ثمانية مقاه في مقدمتها مقهى الفصول الأربعة.. أو (الكارتر سيزون).. وهو مسمى تلمح فيه روح الثقافة.. إلى جانب مقهاها الذي يتوسط قلبها إلى جانب أكبر وأجمل نوافيرها: مقهى (شارلي شابلن).. الذي يتوجب علي الانتقال إليه.. لرؤية الأشقاء الكويتيين والسلام عليهم.. والجلوس مع الأصدقاء والزملاء السعوديين الذين سبقوني إليه.
على الموعد تماماً.. كنت أقف في مواجهة مقهى (شارلي شابلن)، وقد بدا غاصاً بزبائنه من الأشقاء الكويتيين والأصدقاء والزملاء السعوديين و(الفرانكفونيين) من الجزائريين والمغاربة والتوانسة، فبعد السلام والتحية والأشواق.. وطي الصفحات الأولى من أخبارنا الشخصية وأخبار الوطن.. كان يلفت انتباهي أمران: وجود صديقي المغنى الأيرلندي السبعيني (المستر دكس).. الذي حياني كما لو أنه يحيّي شقيقاً له لم يره منذ عام: ووجود تمثال كامل لـ(الكوميديان) البريطاني الأشهر (شارلي شابلن) بـ(قبعته ومعطفه الطويل وعصاه).. دون أن يكتفي صاحب المقهى الفرنسي بإطلاق اسمه - فقط - على مقهاه.. لـ(أراجع) خواطري التي ذهبت بي بعيداً.. إلى القول بـ (إن الثقافة حاضرة في (ديفون)!! لأسأل نفسي: ومنذ متى غابت الثقافة الفرنسية.. عنها وعن أي مدينة من مدن فرنسا الصغيرة أو الكبيرة) في بلد (الحرية والإخاء والمساواة)؟!
فقد كانت فرنسا.. هي مصدر الإشعاع والإبداع، وهي المصدّر للثقافة المعاصرة منذ القرن السادس والسابع عشر.. من خلال روادها ورموزها ومبدعيها الأوائل من أمثال: فولتير وموليير وفيكتور هيجو صاحب (البؤساء) و(أحدب نوتردام)، وشاعر فرنسا الأعظم الذي قال عنه الزعيم الفرنسي الأشهر شارل ديجول.. معتزاً بشاعريته: (من لا يتعرف على قصائد «هيجو».. إلا إذا قرأ توقيعه عليها: ليس فرنسيا) ...!! ومن خلال فلاسفتها (كانت) و(ديكارت) الذي ألهمت نظريته في (الشك) الأدبي الدكتور طه حسين ليكتب كتابه الأجمل والأشجع: (في الشعر الجاهلي).. ومن خلال روادها المعاصرين أمثال: الشاعر بودلير، والروائي (البير كامو)، والفيلسوف والروائي الوجودي الأشهر: (جان بول سارتر)، الذي قال عن نفسه في كتابه الممتع والجميل (الكلمات): (إنسان بكله.. يساوي الناس جميعاً.. وأي واحد فيهم يساويه)! وهو يجمع بصورة فريدة نادرة بين (اعتداده) بنفسه و(تواضعه)!!
فـ(معذرة) ديفون.. التي لو لا محبتها.. لما كتبت عنها هذين المقالين.