سهام القحطاني
هل الانتماء أصل في الطبيعة الإنسانية أم هو حاصل ثقافة المكتسبات؟
مع تطور الفكر الإنساني و سلوكاته، يظل التفريق بين ثابت الأصل الفطري وثابت الأصل المكتسب هو أمر ليس بالسهل؛ لهيمنة الإضافات المكتسبة واندماجها مع الأصول الثابتة.
يرتكز الانتماء في مرجعه الأولي على جذر «التشابه» كنقطة تجمع مستقطِبة وموحِدة «لفئة أو لجماعة أو لطائفة» لتحقيق تساند وظيفي يوفر الأنس والألفة والأمن والحماية. وهذا التجذير هو الذي سنّ وشرّع الاعتقاد بأن «التشابه» هو صمام الأمان لاستدامة الأنس والألفة والأمن والحماية، واستبعاده كمُجّذر للانتماء غالبا ما يواجه بالمقاومة باعتبار أن تشريع جذر للانتماء يتجاوز التشابه سواء بالأصل أو بالتهجين، ويدمج المتشابه وغير المتشابه هو تهديد «لأصول الأثنية» التي هي ضمان سلامة الجماعة أو المجتمع وسلمهما؛ لأن الاعتقاد السائد هو أن العنصر المختلف مفسدة لقوة التشابه وارتباطاته.
وضمان أمن السلامة والسلم هو بمنطق التشريع القائم على «عقيدة التشابه» يعتمد على تعزيز وترسيخ وتوسيع دائرة التشابه بإضافة المتشابهات وحمايتها من التوسع من خلال إضافات لا تتصف بمعايير التشابه وخصائصه.
ولتحقيق ذلك الترسيخ يجب حصر المختلف وفصله عن المتشابه، ومن هنا ظهرت التوصيفات الوظيفية لغير المتشابه لتفريقه عن المتشابه ولتأكيد خطورته على ذات الأنا الجمعي وهويتها، وهذا المسار مستديم عند الشعوب منذ فجر تاريخهم وحتى اليوم، لذا ظهرت النعوت الجنسية والعرقية والدينية والحضارية، وجميعها ملتفة بصيغة الأجنبي المهدد لخطر وحدة المتشابه وأصالة الأثنية وأصولها.
وهذا الجذر القائم على «عقيدة التشابه» وكونها المصدر الأحادي لبناء حائط الهوية والقوة، والاستدامة، هو ذاته الخالق لعقدة «الخوف من الآخر».
وهما -عقيدة وعقدة- ساهما بعد ذلك في تأسيس «عصبة الانتماء» عند الجماعات والمجتمعات. وهو ذاته -الجذر- الذي أنتج صراع الخلاف؛ بسبب ضيق «دلالة التشابه» وتركيزها على «الأصول الأثنية»، وترسيم معاييرها التي ترتبط «بالتطابق العقدي» المبني على منحى الأكثرية والتوافق العرقي والسلوكي والفكري باعتباره هو الاستحقاق المطلق والشرعي وما دونه تابع.
وبذلك فإن الاعتقاد الانتمائي المبني على جذر التشابه بتوافقاته التطابقية هو اعتقاد طارد لكل مختلِف لا يتوافق مع شروط الجذر ووضعياته، وهو ما يؤدي فيما بعد إلى «أزمة التمييز» ونشوء «فجوة الأقليات».
وإشكالية «العقد الانتمائي الإثنيّ» الذي بدوره يؤسس وحدة التطرف والتعصب والتمييز، لا يمكن حلها إلا من خلال «ترسيم ثقافة انتماء» موحدة لجماعات المجتمع، التي تقوم على إعادة جذريات ماهية الانتماء وضوابطه ومعاييره.
القاعدة الأساسية في فكرة الانتماء هي «خلق شعور الأمن والحماية» بالنسبة للفرد أو الجماعات، والتشابه هو بمثابة «حائط الأمن والحماية» وهذا الاعتقاد أسس بدوره «معادلة مضادة» للمعادلة السابقة وهي؛ أن دخول عناصر لا تملك خصائص التشابه والتوافق الإثنيّ» هو أمر جالب للخوف والدمار.
وهذا الإحساس «الخوف من تهديد الآخر» وخطورته، يمكن تحديد العديد من المسوغات المبررة له لكن أبرز تلك المسوغات، هو ما يتعلق «بالمقدس والوعي». إن تأطير أي فكرة بالتحصين والعصمة، وتحقيق صدقيتهما، يستوجب ربطهما «بالمقدس وثوابت هوية الوعي».
وهذه الثيمة يمكن تتبعها من خلال المسرد التاريخي للصراع الإنساني، الذي يثبت أن كل الحروب التي استهدفت تصفية الآخر المختلف لتمكين وتوسيع جذر المتشابه وحماية الأثنية من أي اندماج مع أجنبي كانت تسير تحت مظلة الهلال تارة والصليب تارة ثانية ونجمة داود تارة ثالثة وغيرها من المظلات الدينية.
وبذلك يصبح دعم المتشابه وترسيخه وتوسيعه هو واجب مقدس، وهو واجب يلغي كل الإنسانيات في سبيل تحقيقه، وحكايات التاريخ أكبر شاهد لوحشية الإنسان عندما يتعلق الأمر بنفي الآخر وإبادته، مرورا بالهنود الحمر وصولا إلى مسلمي البورما. فمنطق الإبادة قائم على أحادية أن المتشابه أحق في الوجود من المختلف؛ لأنه يملك الأكثرية والقوة وفاعلية التأثير ومقابل هذه الخصائص للمتشابه يتحول المختلف إلى «سلبي القوة والتأثير». وهو ما يجعل «قوة المتشابه» «لعنة فناء للمختلف»، وخاصة عندما تتحول قواعد الغلبة إلى نمط فكري يُشكل «الوعي العام» لفكر وسلوك وتاريخ الجماعة الغالبة أو المجتمع الغالب.
وهذا المنطق غالبا ما يقوم على أساس ديني سواء عقدي أو طائفي أو مذهبي وهو أساس شكّل الكثير من الصراعات والحروب التي غالبا ما تنتصر فيها أكثرية المتشابه، أو أساس عرقي وحضاري، وغالبا ما تنتصر فيه قوة المتشابه وكثرته.
وإشكالية نبذ الآخر وتصفيته وحماية المتشابه كحائط أمن وحماية، ليست إشكالية مرتبطة بالارتقاء المعرفي والحضاري، بدليل أنها إشكالية مستمرة، وملامحها أوضح في مجتمعات العالم الأول وقوانينه ودراساته، من مجتمعات العالم الثالث. «إن المتشابه عقيدة وقوة» وتتوثق تلك العقيدة وتترسخ قوتها بتوسع المتشابه، وهذا هو المبدأ الذي يسير في ضوئه «التبشير الديني والفكري» للعقائد والمذاهب المختلفة، وأدبياته وآلياته واقتصادياته خاصة في عصر العولمة والانفتاح الإعلامي وتسهيلات السوق الحرة المفتوحة في كافة المجالات حتى عقيدة الإنسان وفكره.
وباعتبار التبشير وفق منظومة العولمة «القوة الناعمة» إما لتضييق دوائر التشابه وتحويلها تدريجيًّا إلى شرائح أقليات، لمصلحة توسيع دوائر مصممي التبشير ومنفذيه، دون حروب أو استعمار، أو لتفكيك دوائر التشابه وإغراقها في الفوضى،
وفي الحالتين سيادة الأقوى محققة على الهائم في الفوضى أو المختلف الذي دائما هو الموصوف بالمغلوب.