عبد الله الماجد
نقلت صحيفة «الأهرام» في عددها الصادر يوم 6 مايو 2018 تقريراً بعنوان: (اثنتان من أهم دور النشر تغلقان أبوابهما إلى الأبد). جاء في مقدمته: (قبل أشهر قليلة أغلقت «دار التراث» و»مكتبة النهضة المصرية» أبوابهما للأبد. ومر الحدث مرور الكرام. إلا أنه يبقى حدثاً - لو تعلمون عظيم, لاسيما أنهما من أكثر دور النشر المصرية أصالة وأقدمها نشأة, وكان لهما قدم صدق في عالم النشر المصري التليد طيلة عقود عديدة خلت. إغلاق الدارين يثير من جديد واقع نشر الكتاب الورقي في مصر (الآلام والآمال)، ويطرح تساؤلات عن المستقبل الذي بات محفوفاً بالمخاطر التي تهدد واحدًا من أهم عناصر قوة مصر الناعمة «الكتاب» وهو الأمر الذي يحتاج إلى التفات كبير). (انتهى)
ويظل نشر الكتاب, أحد القيم الحضارية الباقية والمستمرة عبر تاريخ الإنسان, منذ أن بدأت الكتابة والقراءة, متزامنًا مع حياة الإنسان. وما من دلالة على قيمته وأهميته؛ بل وقداسته في أحيان, أن الرسالات السماوية التي أُنزلت على الأنبياء؛ يشار إليها على هيئة كتاب. والقرآن الكريم وصف في التنزيل الحكيم أنه كتاب في أكثر من مرة. ولهذا يظل الكتاب المنشور ورقياً, أكثر المرجعيات أهمية وتوثيقاً, لا تصل إليه وسائل الاسترجاع والنشر الإلكتروني, التي يسهل تحويرها والإضافة عليها. ولهذا فهي ليست مرجعاً أو مصدرًا يعتمد عليه علمياً في دوائر البحث. بينما يظل الكتاب الأهم توثيقاً وصمودًا أمام عوادي الزمن والعبث. وعلى هذا الاعتبار, فإن صناعة نشر الكتاب, هي من أقدم الحرف والصناعات التي عرفها الإنسان وأشرفها.
وعلى مرّ العصور لم تتوقف حركة نشر الكتاب والاتجار في أسواقه, حيث تفرغ أناس ذوو موهبة لنسخ الكتب, فانتشرت حرفة الوراقين في كل عصر, وقد أصبح بعض هؤلاء النساخ؛ علماء ومؤلفين لكتب هي من أهم كتب التراث, أمثال (ياقوت الحموي) صاحب الموسوعات, مثل «معجم البلدان» و»معجم الأدباء» وغيرها من المؤلفات المهمة. وكان قد بدأ حياته ناسخاً للكتب, بل إن عمل هؤلاء النساخ, قد حفظ التراث الإنساني من الفناء والضياع عبر العصور. وللشيخ الرئيس أبي علي ابن سينا أحد الرؤوس الكبار من علماء الطب والفلسفة - وكان يرتاد سوق الوراقين - له قصة مع كتاب اقتناه من سوق الوراقين؛ كان له تأثير مهم في فكره وعلمه الفلسفي. وهذه القصة يرويها ابن سينا نفسه كما يلي على النحو التالي:
(قرأت كتاب «ما بعد الطبيعة» (لأرسطو) فما كنت أفهم ما فيه, والتبس عليَّ غرض واضعه, حتى أعدت قراءته أربعين مرة, وصار لي محفوظاً, وأنا مع ذلك لا أفهمه ولا المقصود به. وأيَست من نفسي, وقلت هذا كتاب لا سبيل إلى فهمه. وإذا أنا في يوم من الأيام حضرت وقت العصر في الوراقين, وبيد دلال مجلد ينادي عليه. فعرضه عليَّ, فرددته رد مُتبرم معتقد أن لا فائدة في هذا العلم. فقال لي: اشتر مني هذا, فإنه رخيص أبيعه بثلاثة دراهم, وصاحبه محتاج إلى ثمنه. فاشتريته فإذا هو كتاب لأبي نصر الفارابي في «أغراض كتاب ما بعد الطبيعة» ورجعت إلى بيتي, وأسرعت قراءته, فانفتح عليّ في الوقت أغراض ذلك الكتاب بسبب أنه كان لي محفوظاً على ظهر القلب. وفرحت بذلك وتصدقت في ثاني يومه بشيء كثير على الفقراء). (عن كتاب: الفلسفة الإسلامية في المشرق, فيصل بدير عون, ص 289, الهيئة المصرية العامة للكتاب, مكتبة الأسرة, القاهرة, 2016).
هذه الواقعة, تُلمح إلى مدى أهمية الكتاب, وتنقله عبر الزمان والمكان.
أما عن بداية الطباعة والنشر في البلدان العربية, فقد بدأت متأخرة, عن بداية الطباعة العربية في أوروبا بأكثر من قرن, حيث بدأت بداية متواضعة في أواخر عام 1586+م. وأول ما طبع في هذه المطبعة التي كان مقرها مدينة «روما» بإيطاليا, كتاب «القانون» لابن سينا, ومعه كتاب «النجاة» وهو مختصر «الشفاء»، وذلك في عام 1593م. (انظر تفاصيل ذلك عند: عبدالرحمن بدوي, موسوعة المستشرقين, ص 551, دار العلم للملايين, بيروت, 1993). ومعنى ذلك أن الطباعة العربية ونشر الكتب العربية، قد بدأت في أوروبا قبل بدايتها في البلاد العربية والإسلامية. وأن بدايات نشر الكتب بشكل منتظم, وإنشاء دور للنشر قد بدأت في أوروبا قبل البلاد العربية بأكثر من قرنين ونصف القرن. حيث يشير تاريخ إنشاء واحدة من أقدم المكتبات ودور النشر, وهي دار ومكتبة «بريل» في ليدن بهولندا إلى عام 1683, ولا تزال مستمرة وقائمة, وهي تمثل وجهاً حضارياً مُشرقاً, وكلما كبر عمرها, أصبحت واقعاً يُجلله عبق التاريخ بالمجد والإيثار. وفي دول أوروبا وأمريكا؛ دور نشر لا تزال تحتفل بمرور أكثر من ثلاثة قرون على إنشائها. والسبب في بقاء أمثال هذه الدور, أنها قامت على أسس وخطط تكفل لها البقاء, ومعظم تلك الدور مؤسسات غير حكومية, لكنها تحظى برعاية المؤسسات الحكومية بطرق مختلفة.
ويرتبط عصر الصناعة الحديثة بالقرن الخامس عشر الميلادي, مقترناً بالإضافات المهمة التي حققها العالم الألماني جوتنبرج Guttenberg (1468 - 1398) في هذا المجال.
وفي بلادنا العربية, فإن بداية تاريخ صناعة النشر المنظم؛ لا يتجاوز مائة وخمسين عاماً. ودور النشر التي تنازع على البقاء أو أشرفت على الإغلاق النهائي لا يتعدى عمرها المائة عام, مثل «دار النهضة المصرية» التي يعود تاريخ إنشائها إلى عام 1939. ويمكن تفهم الأسباب التي دعت ورثة الملاك التاريخيين إلى اتخاذ إجراءات الإغلاق, ومن تلك الأسباب, أنهم غير محترفين لمهنة النشر, فاستبدلوا المقر التاريخي الذي يقع في منطقة مهمة في وسط القاهرة, بعائد مادي يُدر عليهم أضعاف ما تدره عوائد النشر, في ظل ظروف قاسية, تعاني منها صناعة النشر في الوقت الحاضر، مما يستدعي مطالبة أجهزة الدولة الثقافية؛ في البلاد العربية, إلى التدخل لحماية صناعة النشر من الإندثار, وخاصة نشر الكتاب الجاد, وفق معايير علمية, تحمي الكتاب وتُبعد عنه الاتهام بالتدني والوقوع في دائرة تضليل الوعي الثقافي الجاد, أو الوقوع في دائرة الكساد, في عصر تحتدم فيه منافسة الوسائط الحديثة للاتصالات.
وفيما يتعلق بالأجهزة الثقافية الرسمية, فإن بعضها يقوم بعملية النشر, ولكنها عمليات تحكمها إجراءات عدة, وتجعلها لا تنافس عملية النشر الخاص المحترف. مع أنها تحظى بالدعم المالي, الذي تفتقده دور النشر غير الحكومية، وأجهزة الدولة التي لها صلة ما بصناعة الثقافة, تقوم بالدعم المباشر لصناعات لها صلة بمفهوم الثقافة, مثل المجالات الرياضية, وبشكل خاص «كرة القدم» التي يفوق فيها ما يقدم لشراء لاعب موهوب, أكثر مما تحتاجه عشر من دور النشر الخاصة, لتواصل حياتها في النشر, لأكثر من عشر سنوات. كما تُدعم هذه الأجهزة الرسمية, قطاعات الفنون الاستهلاكية؛ مثل مواسم الغناء والاحتفالات التي تقام لذلك, فيما تنعدم أي خطوة لدعم المؤسسات القائمة على النشر. بل تتحمل دور النشر أعباء ليست في طاقتها, وليست متناسبة مع العائد من نشر الكتب, مثلاً في معارض الكتاب يتحمل الناشر دفع أموال طائلة لقاء تأجير مواقع العرض (جناح العرض) لعشرة أيام هي مدة المعرض, ولم تعد المؤسسات الحكومية تقبل على إنعاش حركة شراء الكتب.
ولا تزال هناك إجراءات حكومية في معظم البلاد العربية؛ تضاعف من تكاليف أعباء النشر, مثل المبالغة في تكاليف نقل الكتب, والإجراءات الجمركية, التي تساوي بين ما يفرض على الكتب وغيرها من السلع الاستهلاكية والترفيهية, وتساوي الضريبة المضافة بين السلع الأخرى والكتب. ومع وجود قرارات تستثني الكتب ومستلزمات الطباعة الخاصة بالكتب من الأعباء الجمركية. أو تفرض عليها نسبة لا تتجاوز %5 هذه الإجراءات لا تُطبق عملياً. كما أن المصارف البنكية (البنوك) لا تعترف بنشاط نشر الكتب والإتجار فيها, من بين النشاطات التي تحظى بتسهيلات ائتمانية. ولعل من أسباب ذلك, أن العائد الربحي من صناعة نشر الكتب شبه معدوم, حيث تستهلك الأعباء المضافة على عملية النشر, مثل الإيجارات والمرتبات بالإضافة إلى أعباء التكاليف الأخرى, مثل مصاريف السفر للتمثيل في المعارض الدولية والاشتراك في هذه المعارض, إيجار جناح العرض, ومصاريف أخرى مثل مصاريف الإقامة والتسجيل للمقيمين, والمساواة بين من يعملون في قطاع النشر, والقطاعات الأخرى. وكثير من دور النشر بل معظمها, لا تمتلك مقار دائمة, مما يُحّمل بعضها أعباء لتأجير مقار, تلتهم معظم إيراداتها, وفي أحيان تتقاعس في دفع ما يترتب عليها في مواعيده كل هذه الأعباء وغيرها, تلتهم أي عائد مجز, وتجعل من صناعة نشر الكتب تجارة خاسرة, تُعجّل باضمحلالها ثم تصبح مجرد ذكرى جميلة.
وليس تحت يدي بيانات إحصائية, أو حتى مؤشرات, بحجم عوائد النشر في البلاد العربية, أو في بلد عربي معين, غير ما يتواتر بالحدس والتخمين, في معارض الكتب وعوائدها المالية, التي عادة ما يتم مقارنتها مع حجم الإقبال على المعارض. وهذه طريقة مضللة, فالإقبال مثلاً على معرض مثل معرض القاهرة لا يقاس بحجم عوائد البيع. فيما حقق معرض الرياض قبل أربع سنوات عوائد مجزية للناشرين. وفي الدورات التالية لم يحقق ذلك العائد.
لكن دول أوروبية, تحتكم إلى المؤشرات الإحصائية, فإن دولة مثل فرنسا - مثلاً - بلغ حجم مبيعات مجمل أنشطة النشر الفرنسية, في عام 2000 ما يقارب 2.29 مليار يورو. فيما حققت مبيعات الأنشطة الصحفية حوالي 10 مليارات دولار. وحجم مبيعات أنشطة الإذاعة والتليفزيون 6 مليارات يورو. والأنشطة السينمائية حققت حجم مبيعات يقارب مليار يورو (عن كتاب «مِهَن النشر», تحرير براتران لوچوندر, ترجمة أسامة نبيل, حمادة إمام, الهيئة المصرية العامة للكتاب, القاهرة, 2007). ويعلق الكاتب على تلك الإحصائية بما يلي:
«وتسهم المقارنة بالأنشطة القائمة خارج إطار الصناعات الثقافية في تصور العلاقة المتعلقة بالأ همية الاقتصادية للنشر, ونلاحظ ببساطة أن حجم مبيعات مؤسسة التوزيع الكبرى ليكليرك Le clerc والذي بلغ 23 مليار يورو في عام 1999 يفوق حجم مبيعات النشر الفرنسي بعشرة أضعاف.
وبالتالي يوجد هناك تفاوت كبير بين القيمة الإعلامية للنشر ومكانتها بين الثقافات وتاريخها والبعد الثقافي المؤثر من جهة وبين وضعها الاقتصادي الضعيف من جهة أخرى.
بالإضافة إلى أنه عندما نتحدث عن مبلغ 2.29 مليار دولار الناتجة عن ثلاثمائة وواحد وثلاثين دار نشر يجب معرفة أن حوالي ثلاثة أرباع هذه القيمة تحققت فقط من جانب ثلاثين دار نشر بلغ حجم مبيعاتها أكثر من 15 مليون يورو. ويضاف إلى ذلك أنه في قاعدة هذا الهرم توجد مائتا دار نشر لا تحقق أكثر من 4.3% من حجم مبيعات هذه المهنة.
ونضيف إلى ذلك أن التنمية الخارجية للمشروعات قد أحدثت حركة نشطة حول اكس جروب دولاسيتى والتي أصبحت بعد ذلك فيفاندي Vivendi Hachette Livre يونفرسال ببلشنج ومؤسسة هاشت ليفر والتي تحقق تقريباً ثلاثة أرباع حجم مبيعات المهنة (المرجع السابق, ص 19).
والواقع أن هذه المؤشرات الإحصائية؛ التي يعرضها الكاتب, تُشير إلى نُذر أزمة قادمة, سوف تعاني منها قطاعات النشر في فرنسا, كما تشير أيضًا إلى تواضع عوائد النشر الورقي, في مقابل الانتشار العريض لوسائل التقنيات الحديثة, ويُمكن ملاحظة أن قطاعات عريضة من الزيادة في أعداد القادرين على القراءة, قياساً لزيادة أعداد السكان, إنما تتجه إلى هذه الوسائل التقنية التي تمتاز بالإبهار, وإثارة الدهشة, لكنها لا تؤسس لثقافة رصينة, في مقابل ثقافة استهلاكية وسريعة.
وأتصور أنه بالنسبة إلى عالمنا العربي, حيث لا يزال قطاع عريض من سكانه, يعاني من تدني الثقافة, وتواضع قيمة العملية التعليمية؛ لابد أن تنتبه الحكومات العربية, إلى أن الخطر لا يزال يُداهم هذه المناطق, وأن أحد ألوان هذا الخطر هو أن البيئات العربية, والبيئات المحيطة بها؛ أصبحت بيئة مُنتجة لكل ما يعادي الثقافة الإنسانية الرشيدة, وعناصر الإرهاب, أهم العناوين, لهذا الاختلال في نسق النمو الاجتماعي النموذجي المعتدل. وهذا الواقع هو محصلة طبيعية, لإهمال هذه الحكومات التخطيط والدعم للمناشط الثقافية. ومن بينها النشر ودعم مؤسسات النشر, بالتيسير عليها. ومسح تلك الفكرة القديمة المعادية للنشر والكتاب تلك النظرة التي تنظر إلى أن الكتاب أداة استفزازية, ولعل في هذه النظرة السلبية ما يُعبر عن اعتراف بأهمية الكتاب في تشكيل العقل والفكرة الإنسانية. وهو ما لم يتم وضعه في مواجهة هذا العقل الذي تشكل في ميدان ليس له فيه منافس.
** **
marspub2002@yhoo.com