نكاد أن نستخدم مفهوم «ثقافة» أو مشتقاته كل يوم، بل كل ساعة وخاصّة في الإعلام، وهذا أمر طبيعي وضروري في الكثير من الأحيان بمقدار ما لهذا المفهوم من فاعلية كبرى لجميع الفئات الاجتماعية على مختلف مشاربها.
وهذه الفاعلية ليست آنية وحسب، إنما هي مستمرّة حتى للشخص الواحد بمختلف مراحله العمرية وتجاربه الذاتية والاجتماعية.
استخدام المفهوم من حق أي فرد زمانا ومكانا وبأي طريقة كانت، لأن للمفهوم دلالة واسعة ومتعددة بتعداد البشر وتجاربهم، مما يتيح الفرصة لاستخدامه بمضامين متعددة، كأن تقول مثلا: الثقافة العربية أو الإسلامية أو العالمية أو ثقافة النبلاء أو المسحوقين أو النخبة أو العمال... الخ. ولكن إذا أردت أن «يشاركك» الآخر بمفهومك لا بد من «تعريفه». وبكلمات أخرى: عندما يُعَرَّفْ المفهوم يخرج من دائرة الفرد إلى الجماعة، وهذا يتطلّب موافقة الجماعة، أي يتحول «المفهوم» إلى «مصطلح».
لو بحثت في المعجم أو المراجع الأخرى ستجد تعريفات لا تحصى للثقافة والمثقف، وكل منها ليس خطئا، لأنه يتناول جانب واحد من المفهوم، وليس صوابا أيضا، لأنه لا يتناول الجوانب المشتركة والفاعلة في الواقع الاجتماعي كلها، ليصبح المفهوم بذلك مصطلحا. وإذا كان أي تعريف مقبولا لدى جماعة صغيرة أو كبيرة يتحول إلى «مصطلح»، ولكن يبقى ذلك التعريف محصورا ضمن تلك المجموعة. ما هي إذن جوانب «الثقافة» المشتركة التي يجب أخذها بالاعتبار عند تعريف هذا المفهوم؟
يشترك معظم الباحثين أن الثقافة هي: أولا: منتج اجتماعي، أي ناتجة عن تربية الفرد وتعليمه وتفاعله مع الآخر. كما أن الفرد بتفاعله ذاك يؤثر على المجتمع أيضا، أي أن العلاقة جدلية بين الفرد ومجتمعه.
ثانيا: ارتباط الثقافة بالتجربة الاجتماعية يجعلها بالضرورة مرتبطة بالزمان والمكان، أي أن لكل بقعة جغرافية لها مراحل لتطور ثقافتها عبر العصور، وكذلك تلاقحها مع الثقافات الأخرى.
ثالثا: بما أن الفرد يتأثر ويؤثر في المجتمع، إذن الثقافة ليست معرفة وحسب، إنما سلوك. وبما أن الثقافة سلوك فلا بد من أخذ الصراع الاجتماعي القائم بين الظالم والمظلوم في كل الدنيا والموقف منه، أي أن المثقف الذي يساهم في تقدم مجتمعه: هو إيجابي، ومن يساهم في تأخر مجتمعه أو ترويج الاستكانة والخنوع لإرادة المتربصين به: هو مثقف سلبي. ولا يجوز أن أنفي صفة «الثقافة» عن «المثقف» السلبي أو الإيجابي لمجرد أنني أخالفه الرأي أو السلوك.
رابعا: حتى لو كانت «معرفة» أي فرد، من أي مجتمع كان موسوعية، فهذا لا يعني أنه «مثقف» إلا إذا كانت معرفته فاعلة اجتماعيا. لذلك يوجد مجالات متعددة لتجسيد تلك المعرفة سلبا أو إيجابا، كالإعلام والجامعات والخطب والمجالس والنوادي ومؤسسات المجتمع المدني ..الخ.
خامسا: التفاعل الاجتماعي نسبي وليس مطلقا، ولذلك «الثقافة كمفهوم وكمصطلح» ليست مطلقة إنما نسبية، ولا يمكن إغفال التفاوت الاجتماعي والفردي جغرافيا وتاريخيا. كما لا يمكن رهن الثقافة بالأدب فقط أو الفن فقط أو التحصيل العلمي أو مقدار المعرفة فقط. فكم من فرد لم يتسن له تربويا إلا الحصول على مستوى متواضع من التعليم، ولكن فاعليته الاجتماعية تفوق خريجي الجامعات.
سادسا: كون الإنسان بذاته كائنا اجتماعيا، فهو بالضرورة نتاج تخلف أو تقدم هذا المجتمع أو ذاك، وبالتالي لا تجوز المقارنة بين أفراد من مجتمعات مختلفة جغرافيا أو تاريخيا.
إذن «الثقافة» هي: ناتج التجربة الإنسانية للمجتمع والفرد تاريخيا وجغرافيا، وتقاس بمقدار فاعليتها الاجتماعية.
ربما يكون التعريف ناقصا، ولكن سأكون في غاية الامتنان لمن «يثقفني» ويستكمل ما غفلت عنه.
** **
- عادل العلي