البحث العلمي من أهم سبل تطور الأمم وتقدمها، وهو وسيلة من وسائل الرقي الفكري والمادي للمجتمعات، إذ تنبري البحوث العلمية لمعالجة مشكلات المجتمعات في شتى المجالات، إضافة إلى إسهامها في إعداد المختصين المهتمين بمجال بحثي محدد، وإعداد الباحثين لتولي مسؤولية التدريس في الجامعات والإشراف على الرسائل العلمية ومناقشتها. وهو سعي دائم إلى المعرفة. وهو في أبسط صوره طلب الحقيقة وتقصيها وإذاعتها في الناس، وتقديم حلول لمشكلات المجتمع، والرقي بثقافة المجتمعات وآدابها، والإجابة عن أسئلة محددة، وغيرها من الأهداف التي تنبري لها البحوث العلمية.
وحدود البحث العلمي الذي تنطلق منه هذه المقالة يشمل الرسائل العلمية والبحوث التي يقدمها طلاب الدراسات العليا في الجامعات للحصول على الدرجات العلمية، والبحوث العلمية التي تنشر في الأوعية العلمية المتنوعة، مثل: المجلات العلمية المحكمة، والمؤتمرات، والندوات.
وفي هذه المقالة سأتحدث عن خطوات إعداد البحوث العلمية في ميدان الدراسات النقدية.
وبداية أشير إلى أن ما نتلقاه من معلومات ومعارف في مراحل الدراسة المختلفة يذهب معظمه، وتبقى المهارات التي اكتسبها الطالب في تلك المراحل.
والملاحظ على بعض ما يقدم من بحوث في ميدان الدراسات النقدية والأدبية والبلاغية أنها أقرب ما تكون إلى البحوث المدرسية؛ لأنها تخلو من الأهداف الحقيقية، وتعنى بتقديم نماذج عشوائية لموضوع الدراسة. والسؤال الذي يقدم نفسه في هذا السياق: ما الفرق بين البحث العلمي والبحث المدرسي؟
وللإجابة عن هذا السؤال يمكن القول: إن البحث المدرسي يخلو من الأهداف الحقيقية، ومن ثم يفتقد النتائج الحقيقية. أما البحث العلمي فقوامه أهداف حقيقية تقود البحث والباحث، وتسلم إلى نتائج علمية دقيقة في خاتمته، ومنهج واضح ومحدد يضبط مسار البحث.
وأشير هنا إلى أن الموضوع الواحد يمكن أن ينتج بحثاً علمياً أو مدرسياً، وذلك تبعاً لوضع أهداف محددة للبحث، واختيار المنهج، والعناية برصد الظواهر وتحليلها.
ويمكن تحديد خطوات رئيسة لكتابة البحث العلمي تتمثّل في: اختيار الموضوع، وتحديد أهدافه، واختيار المنهج الذي يحقق الأهداف، ووضع خطة البحث، وجمع المادة العلمية، وصياغة البحث ولغته، والمناقشة وتحكيم البحوث.
1 - اختيار الموضوع:
يعد اختيار الموضوع المرحلة الأصعب التي يواجهها الباحث في بداية حياته العلمية، وفي هذه المرحلة تبرز مشكلات عدة، منها: الظن أن الموضوعات الصالحة للبحث في بعض التخصصات نادرة، وهذا غير صحيح على الإطلاق، فالمجال واسع جداً أمام الباحث الجاد. يضاف إلى ذلك قلق بعض الباحثين من الخوض في الموضوعات الجديدة؛ قياساً بما يملك من معرفة واطلاع قبل القراءة العميقة في الموضوع.
والمصادر التي يستقي منها الباحثون موضوعاتهم البحثية متنوعة، منها:
1- الباحث نفسه، إذ يتمكن الباحث الجاد عن طريق القراءة العميقة من الوصول إلى مرحلة تمكنه من اختيار موضوع ينبري لمعالجته في بحثه.
2- يستعين الباحث بالمرشد العلمي أو أستاذ من أساتذة القسم أو من خارجه.
3- بعض الأقسام العلمية تقترح مشروعات بحثية على طلاب الدراسات العليا.
والأصل أن تتمكن برامج الدراسات العليا المقدمة من تنمية مهارات الطالب؛ ليتمكّن من الوصول إلى موضوعات صالحة للدراسة. والقراءة العميقة الواعية الناقدة هي السبيل إلى ذلك، إضافة إلى تدريب الطلاب في مادة قاعة البحث على اختيار الموضوعات.
والمشكلة أنه في كثير من الأحيان ما يقدم في قاعات البحث الدراسات العليا لا ينهض بذلك.
4- الباحث الجاد يكون له مشروعه البحثي الذي يخصص له جزءاً من حياته، يبدأ هذا المشروع بعد نضج الباحث في مرحلة الدراسات العليا، أو بعد الحصول على درجة الدكتوراه، فينبري الباحث للموضوعات التي حددها مسبقاً، ويقدمها تباعاً؛ مشكلة مشروعه البحثي.
والباحث يستطيع اختيار موضوعه البحثي عن طريق:
1- القياس على موضوعات قائمة، مثل: العتبات في شعر فلان، جهود فلان النقدية أو البلاغية، والصورة الفنية في شعر فلان، دراسة إقليم محدد، أو عصر محدد. وعمل الباحث في مثل هذه البحوث تغيير العينة، وفي هذه الطريقة بعض السلبيات، منها أنه قد لا تكون العينة صالحة للموضوع ذاته. وهذه الطريقة من أكثر الطرق شيوعاً في بحوثنا. ويفترض من الباحثين والأقسام العلمية التثبت من أن العينة المختارة تستحق الدراسة.
2- استنباط موضوعات جديدة من خلال المحاضرات، ويتحقق هذا الأمر عن طريق قيام أساتذة الدراسات العليا بتدريب الطلاب على القراءة الواعية العميقة في ميدان من الميادين البحثية، وتدريبهم على اختيار الموضوعات.
والأجود علمياً أن يصل الطالب إلى الموضوع من خلال قراءته العميقة في المراجع النقدية وفي المدونات الأدبية، ليقف على بعض الظواهر التي تحتاج إلى دراسة.
ومن المهم للباحثين أن يضعوا في أذهانهم أن البحث ينطلق من أهداف عدة، منها: الإجابة عن أسئلة تقدم في موضوع ما، والوصول إلى مجهول، وجمع متفرق، وإكمال ناقص، وتفصيل مجمل، وتهذيب المطول، والتعقيب على فكرة سائدة، ونقض فكرة سابقة، وغيرها من المنطلقات التي تفتح الباب على مصراعيه أمام الباحثين لاختيار موضوعات بحثية.
والأصل أن مرحلة الدراسات العليا هي مرحلة تكوين الباحث، ولا بد أن يبدأ في وضع مشروعه البحثي الخاص به، ويتأتى هذا عن طريق القراءة العميقة، وتدوين الملحوظات والأسئلة التي يتوقف عندها؛ لأنها في المستقبل ستكون نواة لبحوثه العلمية التي تشكل مشروعه البحثي.
ولا بد للباحث أن يراعي مناسبة الموضوع للمرحلة التي يقدم فيها البحث، فموضوعات رسائل الدكتوراه تختلف عن موضوعات رسائل الماجستير، وكذلك الحال مع البحوث التكميلية، والبحوث التي تنشر في المجلات المحكمة، والتي تقدم في المؤتمرات والندوات. والاختلاف يرجع إلى الكم (الوقت والحجم)، والكيف (العمق والأهداف).
ومن الأهمية مراعاة اختيار العنوان المناسب للموضوع، إذ ينبغي أن تتسم عنوانات البحوث العلمية بالرصانة والدقة والوضوح والشمولية والتحديد، إذ يحدد العنوان الموضوع والعينة والمكان والزمان والمنهج، ويراعي فيه ترك توالي الإضافات، والإيجاز غير المخل، ووضوح الدلالة ... إلخ...
ونلاحظ أن بعض الباحثين يتجه إلى تغيير عنوانات الرسائل والبحوث العلمية عندما يرغب في طباعتها في كتب مستقلة؛ لتناسب متطلبات النشر والتوزيع، وهذه ظاهرة جديرة بالدراسة والبحث؛ وهذا التوجه يؤكد خصوصية العنونة في البحوث العلمية.
ويتبع اختبار الموضوع اختيار عينة الدراسة البيئة المكانية أو الزمنية، وفي هذا الأمر منهجان:
1- المنهج الأفقي. وفيه يختار الباحث عينة متسعة زمانياً ومكانياً، مثل: اللفظ والمعنى في التراث العربي، وشخصية البطل في الرواية السعودية، والصورة الفنية في الشعر الجاهلي. وهذا المنهج يناسب أكثر مرحلة الدكتوراه.
2- المنهج الرأسي/ العمودي. وفيها يختار الباحث عينة محددة مكانياً وزمانياً، وتطبق على شخصية واحدة، مثل: اللفظ والمعنى عند الجاحظ، وشخصية البطل في روايات إبراهيم الحميدان، والصورة الفنية في شعر طرفة بن العبد. وهذه تناسب رسائل الماجستير. وفي البحوث التكميلية والبحوث التي تنشر في المجلات العلمية وتقدم في المؤتمرات والندوات يكون التحديد أكبر، مثل: شخصية البطل في رواية ثمن التضحية، والرمز في ديوان محدد، وأمثال هذه الموضوعات.
ولكل منهج من هذين المنهجين إيجابيات وسلبيات، ويمكن رصد ذلك بالنظر إلى نتائج الدراسة، وإجادة المنهج، والفائدة العلمية العائدة على الباحث، وغيرها من الجوانب.
وعلى الباحث، وخاصة في مرحلة البداية، ألا يهتم كثيرا باختيار الموضوعات البراقة، وعليه أن يتحلَّى بالواقعية، فمرحلة الماجستير هي البداية، وليس آخر ما يكتب، وهي مرحلة عبور إلى ما هو أهم.
والمهم اختيار الموضوع المناسب للمرحلة، والمناسب للطالب، والموضوع المتوقع أن يقدم إضافة إلى المعرفة في ميدانه.
وعليه أيضا اختيار ما يتناسب مع توجهاته وميوله وقدراته، فما يصلح لباحث قد لا يصلح لآخر.
2 - أهداف الموضوع:
في البحث العلمي هناك سؤال رئيس وأسئلة فرعية، تأتي الأهداف موضحة للأسئلة، وتصاغ بأسلوب: أن يتعرف، أن يبرز، أن يكشف، وهكذا.
وينبغي أن تكون الأهداف منطقية وواقعية وممكنة التحقق. ويبرز ذلك بوضوح في نتائج البحث.
وأهداف البحث هي التي تحدد منهج البحث، وعلى سبيل المثال عندما نريد أن نبرز أنماط الظاهرة ومصادرها ووظائفها ودلالاتها نعتمد المنهج الإنشائي. وعندما نريد التحقق من أدبية النص نعتمد الأسلوبية. وعندما نريد دراسة صحة نسبة النص إلى قائله، وأثر العصر في الأدب نعتمد المنهج التاريخي، وهكذا.
3 - اختيار المنهج المناسب:
إذا كان البحث يسعى إلى الوصول إلى الحقيقة، فإن المنهج هو طريق الوصول. والمنهج: هو طريقة يصل بها إنسان إلى حقيقة. وفي ميدان البحث العلمي المنهج هو الطريقة التي نسير عليها لتحقيق أهداف البحث والإجابة عن أسئلته، أي أنه الطريقة التي نسير عليها لنصل إلى حقيقة ما في موضوع ما من موضوعات الأدب وقضاياه.
ولمزيد من التوضيح نقول: إن المنهج هو مجموعة من الخطوات الإجرائية التي نقارب بها المدونة.
وعندما نتحدث عن المنهج في الدراسات الأدبية والنقدية لا بد من التفريق بين مناهج الدراسات النقدية ومناهج البحث العلمي.
وبداية أشير إلى أن الباحث في ميدان الدراسات النقدية يستعين بصنفين من المناهج: الأول: مناهج الدراسات النقدية، ومنها: مناهج السياق الخارجي (التاريخي، الاجتماعي، النفسي، الثقافي، ...)، ومناهج السياق الداخلي (البنيوية، الأسلوبية، السيمائية، التلقي، ...). والغالب على دراساتنا المعاصرة أنها لم تبدأ من حيث انتهى العرب القدماء، بل استعانت بالمناهج النقدية الغربية. وهذا يحتاج إلى نقاش مستقل.
الثاني: مناهج البحث، مثل: الوصفي، التحليلي، التاريخي، الاستقرائي، الإحصائي، وغيرها من المناهج البحثية
والسؤال الذي يفرض نفسه في هذا المقام يتمثّل في: كيف يختار الباحث المنهج الذي يقارب من خلاله موضوعه البحثي.
وللإجابة عن هذا السؤال أقول: يأتي المنهج ليحقق أهداف البحث، فالموضوع الواحد يمكن أن يدرس بأكثر من منهج تبعاً لاختلاف الأهداف.
وأشير هنا إلى أن هناك فرقا بين منهج الدراسة، والإجراءات التي يتبعها الباحث، مثل ذكر أنه يصوب أخطاء النصوص في الهامش، ويعزو الآيات القرآنية، ويخرج الأحاديث النبوية، ويشرح الغامض ... إلخ... فهذه إجراءات وليست منهجاً.
** **
أ. د. علي بن محمد الحمود - الأستاذ في كلية اللغة العربية - جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
... ... ...
للتواصل مع (باحثون)
bahithoun@gmail.com