أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: الدليل على أن في الأرض خلقا قبل أبينا (آدم) عليه السلام عصوا الله تبارك وتعالى قوله سبحانه وتعالى قاصا قول الملائكة عليهم سلام الله وبركاته: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا}، و(إبليس) لعنه الله ليس من الملائكة الكرام؛ والملائكة لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون؛ لكن لما ورد الخطاب كانوا مـجملين، وكان (إبليس) مندرجا في جملتهم؛ فورد الجواب منهم مجملا؛ فلما انفصل (إبليس) عن جملتهم بإبائه، وظهور إبليسيته، واستكباره عن السجود لآدم عليه السلام: انفصل الجواب إلى نوعين: الأول نوع من الاعتراض كان صادرا عن (إبليس)، والثاني نوع من الطاعة والتسبيح والتقديس كان صادرا عن الملائكة؛ فكان الجواب قسمين، وناسب كل جواب من ظهر عنه؛ ولذلك بين الله تبارك وتعالى: أن (إبليس) ليس من الملائكة.. قال سبحانه وتعالى عن (إبليس) لعنه الله: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} [سورة الكهف/50]؛ فإبليس ليس من الملائكة، لأنه أضمر عدم الطاعة لأمر الله، وأظهر المعصية بعدم السجود؛ ولأن فيه غريزة الاستكبار؛ والملائكة عليهم سلام الله وبركاته لا يستكبرون عن عبادة الله تبارك وتعالى: لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون بلا نقص ولا زيادة.
قال أبو عبدالرحمن: ما تحصل الحيدة عن فهم مراد الله من خطابه جل جلاله إلا بالتحسير أو التقصير في فهمه؛ والذي أحققه أنه يدخل تحت معنى (خليفة) عدد من المعاني: المعنى الأول أن (خليفة) بمعنى خالف غيره، والمراد هنا أن (آدم) عليه السلام خلف الجن في الأرض، وحمل الأمانة بدليل البراهين على أن في الأرض جنا فسقوا وأفسدوا، وبدليل أن سياق الحديث عن (آدم) عليه السلام؛ فهو الخليفة.. فإن قال قائل: لا تزال الجن متعبدة في الأرض؛ فكيف يكونون مخلوفين في الأرض؟!.. قلت: هم مخلوفون [بالفاإ] بخصوص معنى خليفة لا بعمومه؛ وهو أن شرائعهم تبع لشرائع أنبيائهم من الإنس؛ فهم الذين يبلغون لهم دين ربهم.. قال الله سبحانه وتعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ} [سورة الأنعام/ 112]، وقال سبحانه وتعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ} [سورة الأنعام/ 130]؛ فكلمة منكم بالنسبة للجن تصدق على ما قبل استخلاف آدم عليه السلام، وتصدق على من بلغهم منهم خبر بعث نبي من الإنس.. وقال سبحانه وتعالى: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ وَالطَّيْرِ} [سورة النمل/ 17]، وقال سبحانه وتعالى عن نبي الله سليمان: {فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} [سورة سبأ/ 14]، وقال سبحانه وتعالى عن محمد صلى الله عليه وسلم: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ} [سورة الأحقاف/ 29].. وقال سبحانه وتعالى عن الجن وعلاقتهم بدين موسى: {قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى} [سورة الأحقاف/ 30] ، وأثنى الله على جن نصيبين في إجابتهم قول الله سبحانه وتعالى كل ما بلغ قول ربه {فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [سورة الرحمن/ 13]: قالوا: (لا بشييء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: للجن أحسن مردودا منكم)..وبمقابل هذا لم يثبت في نصوص الشرع قط أن قوما من الإنس تبعوا شريعة نبي من الجن؛ فتلقي الوحي هو خصوص الاستخلاف الذي تميز به بنو آدم عن الجن.. والمعنى الثاني أن (خليفة) شامل معنى خلف؛ أي أن بني آدم يخلف بعضهم بعضا في تطبيق الحاكمية على الأرض: من نبي ورسول، ومن تابع وارث دين نبي؛ وذلك التابعحسن أو مقتصد، ومن كافر مفرط؛ فكل قائم بأمر في الأرض مسؤول عن استخلاف الله إياه؛ لأن الله نزل الشرع وبينه، وجعل خلقه من الجن والإنس مؤتمنين عليه.. والجن يشاركون الإنس في هذا المعنى، والبرهان على هذا المعنى أن كلمة (خليفة) دالة على أن (آدم) عليه السلام (؛ والجن تابعون لكل رسول كريم من بني آدم) ؛ فتعينت تبعية الجن رسل الله من الإنس، وسياق الآية من قول الملائكة عليهم السلام دل على أن بني آدم عليه السلام والأنبياأ من ذريته عليهم صلوات الله وسلامه وبركاته: هم أنبياأ الله إلى الجن؛ ومن هنا تعين أن معنى الخلف أيضا مراد؛ لأنه كما لا يجوز التفريط في معاني مفردات كلام الله: كذلك لا يجوز التفريط في معاني سياقه.. والمعنى الثالث أن كل مبلغ دين ربه، وإرث نبيه، أو قائم به، أو مجاهد فيه، أو حاكم به: فهو خليفة بمعنى خالف ومستخلف فوض الله إليه بتدبيره الشرعي أن يؤدي الأمانة التي استخلفه الله لرعايتها؛ وبرهان ذلك قوله سبحانه وتعالى: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} [سورة ص/ 26]؛ ففسر ربنا معنى خليفة بالأمر بالحكم بالحق؛ والكافر مستخلف في الأرض بتدبير الله الشرعي؛ ولكنه عصى مقتضى ذلك.. برهان ذلك قول الله سبحانه وتعالى ممتنا على المؤمنين: {وَاذْكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ عَادٍ} [سورة الأعراف/ 74]؛ فجماعة (عاد) كانوا خلفاأ في الأرض، ولكنهم كفروا، وقال سبحانه وتعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [سورة يونس/ 14]؛ وإلى لقاء في السبت القادم إن شاء الله تعالى, والله المستعان.