محمد آل الشيخ
يتفق كثير من الكتّاب والمفكرين على أن الأب الروحي للإسلام السياسي هو الهندي الصحفي «أبو الأعلى المودودي» الذي عمل بجد ومثابرة لإخراج الإسلام من كونه دينًا نزل على محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم؛ ليطرحه كحركة سياسية دنيوية، وابتدع ما سماه (الحاكمية) التي هي بمنزلة حجر الأساس للإسلام السياسي، وحاول أن يضع منها نوعًا رابعًا من أنواع التوحيد، إضافة إلى توحيد الألوهية والربوبية وتوحيد الأسماء والصفات، إلا أنه لم يحقق النجاح الذي كان يصبو إليه، رغم أنه أصاب نجاحًا جزئيًّا، تمثل فيما بعد بما أُطلق عليه (الإسلام السياسي) بجميع حركاته المعاصرة، وعلى رأسها حركة الإخوان المسلمين. الإسلام نزل أول ما نزل على الرسول في مكة، وهناك كان يطرح طرحًا على أنه تصحيح للعلاقة بين الإنسان وخالقه جل وعلا، مؤداه -على سبيل الحصر- أن يعبد الإنسان ربه دون أن يشرك به شيئًا. ولما هاجر الرسول إلى المدينة مارس السياسة، بما كان يوحَى إليه من ربه، ويستشير بشأنها أصحابه أهل الاختصاص كما أمره ربه، كلٌّ في شأنه. أي أن المسلمين يتحتم عليهم طاعته -صلى الله عليه وسلم- في الشؤون الدينية، وكذلك الشؤون الدنيوية التي بها نص. أما الشؤون الدنيوية التي ليس بها نص فأوكلها إليهم، وقال عندما (اجتهد) في منع تأبير النخل، واتضح خطأ اجتهاده -صلى الله عليه وسلم- مقولته الشهيرة: «أنتم أعلم بأمور دنياكم». والإمامة كما يسميها السلف، أو (الحاكمية) كما يسميها المتأسلمون، هي شأن دنيوي في إطار التوجيهات الربانية العامَّة المبثوثة في الكتاب والسنة، تسعى وتهدف إلى تحقيق مصالح المسلمين في دنياهم، وتدور معها، وتتبعها حيث دارت واتجهت. بينما الشؤون الدينية من عبادات واعتقاد هي ثوابت راسخة، لا تتغير بتغير الزمان والمكان. وثوابت الإسلام (تنحصر) حكمًا في أركان الإسلام الخمسة فقط، أي أن الفيصل بين المسلم وغير المسلم ينحصر في صفاء الاعتقاد والعبادات والطاعات. وهذه الأركان الخمسة لا علاقة لها بالمصالح الدنيوية التي ليس بها نص، بينما الشؤون الدنيوية مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بمصالح الأفراد بجميع أنواعها. يقول العز بن عبدالسلام، وهو مَن كان يوصف بأنه (سلطان العلماء) ما نصه: «من مارس الشريعة وفهم مقاصد الكتاب والسنة علم أن جميع ما أُمر به لجلب مصلحة أو مصالح، أو لدرء مفسدة أو مفاسد، أو للأمرين، وأن جميع ما نُهي عنه لدفع مفسدة أو مفاسد، أوجلب مصلحة أو مصالح، أو للأمرين، والشريعة طافحة بذلك». وقد عرَّف الغزالي المصلحة بأنها «المحافظة على (مقصود الشرع)». ويتوسع ابن تيمية في مدلول المصلحة الدنيوية بقوله: «لكن بعض الناس يحصر المصالح المرسلة بحفظ النفوس والأموال والأعراض والعقول والأديان، وليس كذلك، بل المصالح المرسلة في جلب المنافع ودفع المضار». ويعرِّف ابن تيمية المصلحة بأن «يرى المجتهد أن هذا الفعل يجلب منفعة راجحة، (وليس في الشرع ما ينفيها)».
فإذا كانت (المصلحة) هي بيت القصيد، وأنها تتغير من زمن وآخر، فإنها يجب أن تتغير وتتبدل، وليست في الغالب الأعم من الثوابت كما هي العبادات والعقائد؛ لذلك فإن (الحاكمية) هي شأن دنيوي محكوم بما ورد فيه نص، أي ليس في الشرع ما ينفيها، وتدور وتختلف تبعًا لمقتضيات المصالح التي يقررها أهل الاختصاص. هذه النقطة الجوهرية بالذات تجعل أولئك الذين يقحمون السياسة -وهي من المتغيرات بما لا يخالف الشرع- بقضايا الدين الثابتة التي لا تتغير، يمارسون تزويرًا وتلبيسًا وتدليسًا قد ينطلي على البسطاء، لكنه عند من يبحث ويمحص ويرصد ويقارن يتلاشى أمام هذه الحقائق الجلية، وتسقط حججه.
إلى اللقاء.