هدى مستور
لا تخلو حياة أحدنا من عقبات ومطبات وسقطات،،،
هي تتفاوت في شدتها، وفي مدتها، وكذلك في تتابعها،،،
جميع الأديان والثقافات أوصت الناس بتلقي الصدمة بمزيد من الاحتمال والتقبل، وجعلت أفضل الرتب هو مقابلتها بالرضا وزيد فوقها رتبة الشكر، وفي المقابل حذرت من التطرف في رفض الألم بإظهار الجزع والسخط والرفض... ودرج الصابرون على احتمال المصائب بتمنية النفس بموعود الله تعالى لمن تلقى البلاء بروح راضية وقلب شجاع {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} (155) البقرة 155
ولكن بالنظر الى الصبر الذي درج بعضهم على إقناع ذوي المصاب به بقوة، إذ قد لا يجد الواحد في نفسه القدرة على التحلي به، فيزيده وجعاً على وجعه ويحمله ضغطاً لا يحتمله!.
فهو ألم يتجرعه وهو ساكت (غصب) وراض (غصب). ولكن الموقف من الألم يبقى مجرد موقف، والموقف من الشعور المصاحب للألم يبقى مجرد شعور! والموقف من المصاب يبقى كما هو. ولا عزاء للمبتلى!
فالصبر مأمور به من اعتراه اعتلال ومرض في جسده - فعلى سبيل المثال - جسده قد دخل في مقاومة مع المرض، وقلبه تطحنه مشاعر الخوف، من الوجع والموت، فضلا عن فكرة ضعف الاستعداد لحياة أخرى بانتظاره، وفي الوقت نفسه فهو أسير لرغبة مغروسة في أعماق فطرته، وهي التمتع بزينة الدنيا، وبصحبة أحبته.
ومن كان مأموراً بالصبر على مظالم يتعرض لها، فقلبه يصارع ظلمات بعضها فوق بعض من الشعور بمرارة الظلم، والقهر، والغبن، وفكرة العجز مع قلة الحيلة وغياب السند..
وقس على ذلك في كثير من منغصات ظروف الحياة...
ولذا كان ما يدعم جمالية الصبر، وتقبله النفس بارتياح لا عن مضض، وتمارسه برضا لا بتظاهر، ويتفاعل معه الجسد دون أن يترك عطباً أو ورماً، وتنجح الروح في التلذذ بأسرار جماله: هو حيثيات عدة:
أولها: تصويب مفهوم الصبر؛ بتوجيه تطلع رغبة الصابر الى حالة الكمال وهي المقابلة لحاله: كالشفاء، والحرية والعدالة، ولقاء الأحبة، والسعة والرخاء، كل بحسب ما نقص لديه؛ فهذا النوع من جماليات الصبر، وفنونه، من شأنه أن يلطف من مرارة مذاق الصبر، ويعزز من مناعة الصابر في صبره، ويرفع من درجة قدرته على تقبل واقعه، ويريح نفسه ويلتئم فتق جرحه.
فالصبر هنا قرين الأمل والباعث على التفاؤل والإيجابية، وهذا بدوره ينشط القلب وتزهر معه النفس وتطيب، بخلاف إجهاد العقل وحده بإكراهه على الاقتناع بفكرة التحلي بالصبر!
إن وصول الصابر الى هذه الحالة من التفاؤل والأمل، يزيد من فرص عبور تجربته بسلام، دون تبعات خطيرة، وذلك لتلقيه الدعم من كافة مركباته: فبأمر من الله، الجسد يتفاعل بذكاء للتشافي، والنفس تكف عن التخويف والتحزين وبث سموم الوسوسة، والعقل هو الآخر سيطلع بمهمته في التفكير الإيجابي لتحليل حالته.
ثانياً: التدرب على ممارسة التقبل؛ تقبل الحدث بعد تجريده من المشاعر الممتزجة، والأفكار المحللة، والأحداث المتشابهة معه، قف هذا الموقف، حتى لكأن أحدهم قد أسقط عليك فجأة ودون استئذان سطلاً من ماء بارد، لا تملك حينها الا أن تهدئ من حركتك الارتدادية، ومراقبة خيوط قطرات الماء، وهي تمر عبر جسدك، وتأخذ طريقها الى الأرض من تحتك.
فشعورك بأن الأمور خرجت عن مسارها الذي خططت له، أوحلمت به، أو اعتدت عليه، هو ما يحملك على الرفض وفقدان الصبر {لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُّكْرًا} الكهف74 وهذا الموقف سيقودك الى حلقات فارغة ومتسلسلة بعضها في إثر بعض من ممارسة اللوم والندم والسخط والتبكيت، إنه لن يقودك إلى شيء إلا الاعتقاد جازماً من أنك لا شيء وهذه المرحلة تجذب صاحبها الى قاع من هزيمة نفسية ساحقة! فلا يمكنه الخروج منها إلا بالإمساك بزمام لحظته الراهنة، وقبول ما يجري فيها من أحداث، فهو بذلك امتلك ردة فعله، له الخيار إما أن يختار الألم والتألم، وله أن يختار الدرس القابع خلف الألم. وهنا لم يعد ذلك الشخص البائس العاجز إنه الإنسان القادر على التكيف والتعلم والمضي قدماً (فمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ). وهذا بدوره يحمله باتجاه الخطوة الثالثة.
ثالثاً: كل التجارب، الحوارات، العلاقات،،، كل ما يجري في الحياة، إنما يخفي وراءه حكمة، واكتشاف تلك الحكمة لا يتم برفضها واختيار الوقوف عند جدار الحدث نفسه متلبساً بحالة الجدل والرفض او السخط، لا يتم كشف الحكمة إلا بشرط الإصغاء للمرشد بداخلك، ومن خلال الغوص في عمق اللحظة الراهنة {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} الكهف82.
الصبر الجميل ليس احتمالا لشيء على مضض في حين أنك ترفضه كلية، وتمقته من أعماقك، وغير قابل به. هذا محض ادعاء وزيف!
الصبر الجميل أن تتدرب على أن تقبل الأشياء كما هي، لا كما تريد أنت أن تكون، لا عن عجز وقلة حيلة؛ وإنما لتيقنك بأن حدود سلطتك تنتهي عنده.