د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
(1)
** في منتصف المسافة بين الظلِّ وظلِّه يقف معظمُنا غيرَ عابئين بالهوامش التي تتكاثر حولهم وتغلف أبصارهم وبصائرهم فلا يرون «ما» و»من» حولهم ظانين أن الظلَّ شمس، وظلَّه فيء، والحياة متاحة، وربما مستباحة ممن يقرأ دون فهم، ويفكرُ من غير عقل، ويبتسم دون أسنان.
** كذا يحيا الأنقياء كما الأشقياء، والأذكياء والأغبياء، والأغنياء والفقراء؛ فموازينُ البشر تناسبية أو نسبية تحلمُ بحدود وتحكم بقيود ويرتقي إلى منصاتها التقي والشقي والعابث والجاد والواعي والعيي، ويأتي من يعتمر رأيًا مختلفًا أو يرتاد أرضًا غير يباب فيفاجأُ بغربةٍ مُمضِّةٍ، وقد ينكفئُ نحو معابرَ تصله ولا تفصله، وتجعله جزءًا ينسى كلَّه، أو كلًا لا يجد بعضَه.
(2)
** لم يتح قلق الزمن لكثيرين رؤيةً ولا رويَّة؛ فالمسافات القصيرة لا تُبرزُ الأقدرَ على الجري المنتظم بل الأقرب للمرور العابر، وبذا صار المؤقَّتُ مستدامًا لا يمنحُ أحاسيس الرضا عن النفس ولا التفاعل مع الآخر.
(3)
** تبادلت القمم والسفوحُ أدوارهما،وتبدلت المعارف والمعالف،وصرنا كما أجهزةٍ تُدارعن بعد؛ نستقي معلوماتنا فلا ندقق، ونتناول أغذيتنا فلا نترفق، تأتينا التوجيهات دون وُجهات؛ فذا يُثبت وذاك ينفي، ومختصٌ ينصح وغيرُه يُحذر، ويفتئت جاهل ويصمت عالِم، ويعلو فدِمٌ فيهبط فَطن.
(4)
** في أنواء هذا الزمن وأجوائه سيلٌ معلوماتي وجدبٌ تحليلي؛ فبمقدار ما نعرف نجهل، وبمثل ما نحكم نحيد، ونظن صحيحًا في الصباح ما ننفيه في المساء، وكنا نُجمع على قضية بالأمس فصرنا نتشظى حولها اليوم، وآمنَّا بحرمة أضحت حِلًا ، وبرموزٍ لم يثبتوا، ووسائط لا تُؤْمَن،وسكنتنا اختراقاتٌ ألْهت،وخصوصيات انتفت أو انتهت؛ فما عاد سرٌ ولا سور، وغابت مساحات الهدوء في غياهب التوجس والتحسس، والتصق الناس دون أن يتعارفوا وبعيدٌ عنهم أن يتآلفوا.
(5)
** هل بقي رقم من نحترمهم في أوساطنا الثقافية « تحديدًا» بكفاءتهم كما بكثافتهم التي عهدناها زمن الشح المعلوماتي والسيول العاطفية؟ الظنُّ أنْ : لا، وربما قال المهتمون بشؤون أخرى مثلَ قولنا لنستعيد ما نُسب إلى كاتبٍ فرنسيٍ في القرن التاسع عشر 1768- 1848م، وهو «فرانسوا دوشاتوبريان»: لا تسرفوا في إنفاق ازدراءاتكم لكثرة مستحقيها»؛ فهل يسأم كل زمن من أهله ؟ لا تأكيد سوى أننا كنا نحتفي بمن يبلغ الدرجة الأدنى من التميز الثقافي فبتنا لا نفرق بين درجات السُّلَّم.
(6)
** المؤدى الأخير لهذه الفقرات المتصلة- المنفصلة أن جماهير الكرةِ لا تفي لذاكرتها الرياضية حين يبدو لاعبها خارج مدار عطاءاته المعتادة،وهو ما يجعله يراجع نفسَه بنفسه، وإن لم يصنع فسيجد مدربًا أو إداريًا يهمشه على خط الاحتياط ثم يدفعه إلى مسار الاعتزال،غير أن الوسط الثقافي لا يملك هذه المهارة بعدما اختل التوازن واختلط من حقه البقاء ومن حقه الوفاء ومن حقه الفناء.
(7)
** السيلُ يجرفُ ويحرف.