د. جاسر الحربش
لا توجد حسب اعتقادي حضارة إسلامية واحدة، بل حضارات إسلامية عربية وفارسية وتركية وآسيوية وإفريقية إلى آخره. توجد داخل ذلك حضارة عربية قوامها اللغة المشتركة وتشابه العمران وأنماط العيش. ليس من المستغرب التحاسد والتنافس بين أهل الحضارات غير المتجانسة والتعبير عن ذلك بصراعات مفتوحة على السيادة والمصالح. المستغرب أن ينشأ هذا النوع من الصراع بين مكونات نفس الحضارة الواحدة بينما هي تمر بأسوأ مراحل الانتهاك والاستلاب من قبل الحضارات الأجنبية الإقليمية والخارجية.
لم تعد توجد حروب مفتوحة طاحنة إلا في المنطقة العربية. كل دول العالم تتقاتل في المنطقة العربية، أمريكا وروسيا والشرق والغرب والشيعة والسنة واليهود والمسلمون والفرس والترك والشيشان والداغستان والإنس والجان. كل هؤلاء لا يتصارعون على أراضيهم وإنما عندنا في العراق وسوريا ولبنان وليبيا والسودان واليمن والصومال وعلى أطراف الخليج العربي وسواحل البحر الأحمر والأبيض المتوسط الشرقية والشمالية الإفريقية. الأسباب ثلاثة: النفط والممرات المائية واختصار مسافات العبور بين الشرق والغرب وبالعكس، ولكن يبقى السبب الرابع المسكوت عنه وهو تناحر أهل المنطقة أنفسهم وتعاندهم على المصلحة الجغرافية المجزأة وعدم اتفاقهم على المصلحة الجامعة بقبول حكومات وأنظمة متنوعة وأديان ومذاهب تعبد نفس الإله الواحد بطقوسها الخاصة.
من الواضح المجرّب في الحياة اليومية أن أهل كل دولة عربية من هذه المنطقة المنكوبة بخلافاتها يحسدون أهل المناطق الأخرى على تحقيق أي سبق يحققونه من الازدهار والتطور. عرب الشمال كانوا يحتقرون عرب الجنوب كمتخلفين وجياع فيما مضى، ثم صاروا يحسدونهم على ما تحقق لهم من استقرار معيشي وتطور تنظيمي وتقني وعلمي في العقود القليلة الحالية. عرب الجنوب يعتبرون عرب الشمال أصحاب كلام كثير وجدال طويل وشقاق ونفاق وانقلابات لا تستقر على حال ونظام عمل. بين عرب المشرق وعرب المغرب ما بينهم من التعاير حول سلامة اللسان وعجمة اللهجات ونقص الولاء للعروبة والإسلام، ولكن الجامع المانع هو أن الفريقين وقعا إما تحت الاستعمار الإنجليزي أو الفرنسي، وما زالت آثار عقدة النقص تجاه المستعمر القديم موجودة في مفاهيم التحضّر ومفردات الكلام في المشرق والمغرب.
من المفترض يفرح أهل الشام مثلاً لأي تقدّم نوعي يحققه العراق، وأن يبتهج أهل العراق لما يحققه أهل الشام من سبق، وأن يفرح الطرفان لما يصل إليه أهل الصحاري الجرداء في الجنوب من استقرار وبنيات حديثة وعلمية، وأن يتفاءل أهل مصر واليمن لما قد يحققه السودان والمغرب العربي والخليج من تطوير في أسباب القوة والتقدّم، وأن تفرح الجزائر للمغرب وتونس، باختصار أن يفرح الجميع للجميع في الاتجاهين. لكن هل هذا هو ما يحصل في القول والعمل؟ لا ليس هذا ما يحصل، بل الاغتياب والاستصغار والدس الإعلامي ومحاولات وضع العراقيل المتبادلة في الطريق. هذا الانتشار الوبائي للتحاسد المتبادل هو ما جعل لكل دولة إقليمية أحلافها الأجنبية، أي ما جعل الثقة في الغريب البعيد أقوى من الثقة في الأخ القريب.
من أين انتشرت ظاهرة التحاسد أولاً، هل كانت من الطبقات السكانية الجاهلة وتسلقت نحو الأعلى باتجاه الطبقات العالمة العارفة، أم أن العكس هو الصحيح، هل هي الشعوب التي تتحاسد وتخضع الأنظمة لعواطف شعوبها، أم أنها الأنظمة التي تتحاسد وتتنافر من بعضها فتنشر العدوى نحو الأسفل؟
الآن انتهى التاريخ القديم ولا يفيد نبشه، لأن الفؤوس المتجمعة من كل بقاع الأرض وقعت في رؤوس كل الأنظمة والشعوب العربية، والزمن لم يعد الزمن الذي يحك فيه الإنسان رأسه بانتظار الفرج غداً، وليس أيضاً زمن تصفية حسابات قديمة وإنما زمن دفن كل الحسابات القديمة.
المؤكد أنه لن تنجو دولة قطرية واحدة من التدمير الذي سبقتها إليه دولة عربية أخرى، إلا بإدراك الأنظمة والشعوب العربية واجب التماسك والتضامن المصلحي، نعم كدول بحدود وحكومات مستقلة لكنها تستفيد كل واحدة من أي خطوة تخطوها دولة أخرى إلى الأمام.