م. بدر بن ناصر الحمدان
في مرحلة مضت زاملتُ هنديًّا، اسمه «سومن»، قد تجاوز الخمسين من عمره؛ كان عامل الشاي في الإدارة التي كنت أعمل بها. امتدت صداقتنا لأكثر من ثلاث سنوات، تعلمت منه كيف يمكن أن تتجاوز كل أوهامك، وتستمتع بالحياة. كان هذا الهندي المخضرم «معدمًا» بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى إلا أن بداخله إنسانًا آخر، يبحث عن كل نافذة يطل بها إلى تلك الحياة التي يتشبث بكل لحظة منها. لديه أسلوب عيش خاص، لا يريد أن يستسلم لما هو فيه من شظف عيش، وحال بائس، ومشاكل لا حصر لها. كان لديه إصرار عجيب على أن يتفوق على نفسه، ويظهر بشخصية لا توحي بأنه تحت وطأة زمن لا يرحم.
ذات يوم كنت وهو نجلس أمام البحر، كان يحدق بعيدًا بعينيه، لا يتحدث، والرطوبة تغطي عدسات نظارته. كنت على يقين بأنه لم يكن يشاهد شيئًا. سألته: إلى ماذا تنظر؟ فقال بلهجته المحلية: «أنا أنظر إلى الهند، كأني أرى بيت أمي الخشبي، ومزرعة الأرز التي باعتها لتدفع ثمن مجيئي إلى الخليج، يومًا ما سأعود لأبني بيتًا لأمي، وأستعيد أرضها». لطالما أذهلتني تلك الروح التي يحملها.
كان يبدأ يومه بتناول وجبة «الكيما» أو الإفطار المقدس - على حد قوله - مع كأس شاي «سليماني» فاخر في مقهى هندي، كل مكوناته سقف من أغصان الشجر، وأربعة كراسي خشبية، وطاولة حديدية، ربما كانت برميل دهانات قديمًا. ينطلق بعدها «سومن» مشيًا على الأقدام إلى مقر عمله؛ ليباشر مهمته من داخل مطبخه الصغير على أنغام تلك الموسيقى الهندية التي باتت أحد طقوس تحضير ذلك الشاي الذي لم يتقنه يومًا، لكنه يقنعك في كل مرة يقدمه لك بأنه الأجمل مذاقًا.
ابتسامته لا تفارق محياه، لديه قدرة عجيبة على نشر الفرح في أروقة العمل، دائمًا ما يحمل في جيبه سمكًا مجففًا، يهديه لكل من يقابله من موظفين ومراجعين تعبيرًا عن الحب والتعايش. في وقت الاستراحة لا يمكن أن يفوت وقت مزاجه في ردهة المبنى مع سجائره الخاصة وشاي ماسلا الهندي. يعود إلى فترة العمل الثانية ورائحة التبغ تسبقه مع صوت خطواته التي تتزامن مع ترديده أنغامًا هي بمنزلة انعكاس لحالة الانتشاء التي كان عليها.
بعد العمل ينطلق إلى غرفته القابعة فوق أحد المباني المجاورة التي تقتطع نصف دخله الشهري؛ ليعيش تجربته المفضلة في إعداد وجبة الغداء التي عادة لا تخرج عن رز أبيض مغطى بالتوابل الهندية وسمك التونة. يدخل بعدها في قيلولة، تمنحه طاقة، تمكنه من اللحاق ببقايا الشمس لممارسة طقوسه الروحية في صيد الأسماك التي عادة ما يعود بدونها؛ لأنه ينشغل بمراقبة الغروب والمراكب العائدة إلى الرصيف؛ لعل أحدًا منها عاد بشيء من ساحل كيرلا.
لا ينتهي يوم «سومن» بغروب الشمس، بل هو توقيت لبداية حياة ليل جديدة، يجتمع فيها مع نخبة من بني جلدته لمشاهدة الأفلام والأغاني الهندية، وتجاذب الحديث عن أخبار الديار. حينما يرتدي (الوزار والفانيلة العلاق) يعني هذا أن يومه قد انتهى، ولم يتبقَّ سوى مراسم النوم بعد رحلة حافلة بالحياة.
سومن سيبقى في ذاكرتي، وذاكرة كل من عاش معه؛ لأنه استطاع أن يُحدث تغييرًا عميقًا بداخله، ولم يكتفِ بذلك، بل غرسه في نفوس مَن حوله، وقدَّم نموذجًا للإرادة وممارسة الحياة بتفاصيلها.. لم يؤجل ذلك حتى يكون لديه المال، أو يبني بيتًا لأمه، أو يستعيد مزرعتها، بل قرر أن يعيشها كما هي لأنه يؤمن بأن اليوم الذي يمضي حتمًا لا يعود.
ختامًا: أعيدوا اكتشاف أنفسكم، وأطلقوا «سومن» الذي بداخلكم.