عبدالعزيز السماري
تعتبر الحضارة العربية الإسلامية الأب المؤسس لكثير من العلوم الطبيعية؛ فقد أجادوا في الفيزياء والرياضيات والبصريات، وفي علوم التاريخ والجغرافيا والفلك، لكنهم في علوم الإدارة كانوا متأخرين جدًّا عن بقية الأمم؛ ولهذا السبب توجد ممانعة ثقافية ضد الكثير من التطورات في العمل المدني، وفي مسألة الحكم من خلال فلسفة الضوابط والتوازنات، التي يكمن في جوهرها الحفاظ على المكتسبات الوطنية، وتكون سدًّا منيعًا ضد الفوضى والفساد.
لا يزال ابن خلدون الفيلسوف العربي الأبرز في التاريخ، وكان له موقف مدني خالص لمفهوم الدولة عندما يعرف ابن خلدون الدولة بأنها «كائن حي، له طبيعته الخاصة به، ويحكمها قانون السببية، وهي مؤسسة بشرية طبيعية وضرورية، وهي أيضًا وحدة سياسية واجتماعية، لا يمكن أن تقوم الحضارة إلا بها..».
لكنه في أطروحته التاريخية يبرر ثيوقراطية الدولة عندما يشير إلى أن الحكومة التي يجب أن تسوس شؤون مجتمع العمران هي الحكومة الدينية لما فيها من حفاظ على مصالح الناس في دنياهم، وسلامة مصيرهم في آخرتهم، فيقول: «والخلافة هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي على مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها؛ إذ ترجع أحوال الدنيا كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة؛ فهي في الحقيقة خلافة عند صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به»..
لذلك قد يغيب عن البعض أن التراث العربي الإسلامي في الإدارة والسياسة كان طرحًا دينيًّا خالصًا، ولم يؤسس لفلسفة سياسية متطورة، ولم يشر علماؤه إلى أي أفكار نظرية أو عملية تؤيد مسألة فصل السلطات، ولو حاول البعض إعادة قراءة بعض النصوص بعد أربعة عشر قرنًا لإدخال هذا المفهوم الغربي الخالص إلى الإرث الثقافي العربي في القرون الوسطى..
وقد كان تطوير هذا المفهوم الحيوي غربيًّا خالصًا؛ إذ تم تطوير نظام الضوابط والتوازنات في التنظيم الإداري للحكومة لضمان عدم انفراد جهة بالثراء والنفوذ؛ ولذلك بنى واضعو الدستور الأمريكي - على سبيل المثال - نظامًا يقسِّم السلطة بين الفروع الثلاثة للحكومة (التشريعية والتنفيذية والقضائية)، ويتضمن العديد من القيود والضوابط على سلطات كل فرع. لم يأتِ تقسيم السلطات بين فروع مختلفة من الاتفاقية الدستورية، ولكن كان لها جذور فلسفية وتاريخية عميقة في العقل الغربي السياسي، وفي تحليله لحكومة روما القديمة. حدد رجل الدولة والمؤرخ اليوناني بوليبيوس النظام السياسي آنذاك بأنه «مختلط» مع ثلاثة فروع: الملكية (القنصل، أو رئيس القضاة)، والأرستقراطية (مجلس الشيوخ)، والديمقراطية (الشعب). وأثرت هذه المفاهيم بشكل كبير على الأفكار اللاحقة حول فصل السلطات عن كونها ضرورية لحكومة تعمل بشكل متوازن. وفي كتابه الشهير «روح القوانين» قال مونتسكيو إن أفضل طريقة لمنع ذلك هي من خلال فصل السلطات؛ إذ تمارس هيئات حكومية مختلفة السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية، مع خضوع جميع هذه الهيئات للرقابة من جهة أعلى لضبط الحكم من خلال القانون. «إذا كان الرجال ملائكة لن تكون هناك حاجة لأي حكومة»، كتب جيمس ماديسون في أوراق الفيدرالية، وأوصى بضرورة وجود ضوابط وتوازنات من أجل تأطير حكومة يديرها الرجال على الرجال. وتكمن الصعوبة الكبرى في تمكين الحكومة من السيطرة على المحكومين، ثم إلزامها بقبول مبدأ الرقابة على تصريفها وتنفيذها للأعمال.