د.عبدالله مناع
كان صيف هذا العام.. الذي انتهى يوم الأحد الماضي بدخول فصل (الميزان).. الذي يتميز عن بقية فصول العام في حياتنا.. بأنه الفصل الذي يحتوي يوم (عيدنا الوطني)، والاحتفال فيه بذكرى وحدة هذا الوطن الغالي العزيز.. مليئاً بـ(المفاجآت) السياسية الدامعة والدامية بصفة عامة!! من مسلسلها شبه اليومي في الحرب السورية.. إلى مسلسلها: الدائم حيناً، والمتقطع أحياناً.. في الصراع الليبي على (السلطة).. إلى مسلسلها في (جرائم) الحوثيين في (اليمن)، وإصرارهم على اختطاف (حكم) اليمن بـ(القوة)، الذي طوى عامه الرابع.. بينما هم ينادون في إعلامهم المُغتصب بـ(تطبيق) محرجات الحوار الوطني الشامل، الذي لم يقل بـ (حكمهم) ولا بدعوتهم لإسقاط (الزيدية) وإقامة (الاثني عشرية) بديلاً عنها.. في بلد لم يعرف طوال أحقابه غير مذهبين: (الزيدية) و(الشافعية)...!!
اما على المستوى «الاجتماعي» أو (الشخصي).. فقد كان لي نصيبي من تلك (المفاجآت).. التي باكرني حضورها بعد دقائق من إقلاع الطائرة السعودية المتجهة من جدة إلى «جنيف» في صباح اليوم الثاني من شهر أغسطس الماضي.. بـ(غياب) الصحف السعودية الورقية قاطبة.. عن ركاب درجة (الضيافة) التي كنت وزوجتي من بين ركابها؟؟!!
وإذا كان أحد مضيفي الطائرة.. قد تفضل مشكوراً.. بإحضار صحيفة (الجزيرة) وبعض آخر من صحفنا اليومية.. مجاملة لشخصي!! فإن (السؤال) يظل قائماً: لماذا يُحرم ركاب (درجة الضيافة) من حقهم في قراءة الصحف السعودية اليومية؟ وهم الذين يمثلون - في ظني - الأكثرية من بين ركاب درجاتها الثلاث (الأولى، ورجال الأعمال، والضيافة)...!؟ فهل هو لـ(توفير) بضعة ملايين لا تغني ولا تسمن (ميزانيتها)..؟ أم أن (المسألة) أبعد وأعمق من توفير تلك (الملاليم) أو الملايين...! وأنها تمثل (انحيازاً) لـ(الصحافة الإلكترونية) التي يقال إن معظم الشباب ممن هم دون الثلاثين هم ركابها.. الذين يعتمدون عليها لمعرفة (الأخبار)، وربما قراءة بعض الأعمدة والمقالات!؟ ولأنهم يمثلون أكثرية ركاب درجة الضيافة فقد منعت عنهم (الصحف الورقية).. لعدم حاجتهم إليها افتراضاً!.. بينما بقى تقديمها مستمراً لركاب الدرجة الأولى ورجال الأعمال.. باعتبار أن ركابها - في الغالب - هم من الكهول والشيوخ الذين تخطوا الأربعين والخمسين والستين من أعمارهم..!؟ على أنني لا أدري -وفى كل الأحوال -: إن كان ركاب (درجة الضيافة)-: هم الذين طالبوا..بإيقاف الصحافة الورقية عنهم؟! أم إنه (اجتهاد) من (الخطوط السعودية)...؟
فإن كان الأمر.. هو (اجتهاد) من (الخطوط السعودية).. فإنه يستحسن الرجوع عنه، وتوفير الصحافة السعودية الورقية لركاب (درجة الضيافة).. لأنهم ليسوا جميعاً من الشباب.. بل إن من بينهم أعداداً لا تقل نسبتهم عن
ثلاثين بـ(المائة) من مجموعهم من الكهول والشيوخ إن لم يكن أكثر.. في ظل أسعار تذاكر الخطوط السعودية (الباهظة)، التي حملت الكثيرين ممن اعتادوا ركوب (درجة الأعمال) إلى ركوب (درجة الضيافة) الأرحم مالياً.!؟
وأحسب أن وضع (الصحافة الورقية) في خدمة (كل) الدرجات.. لا يصح أن يخضع للمعيار (السنِّي) الافتراضي.. بقدر ما يخضع لـ(زمن) الرحلة، وطولها.. فالرحلات التي تزيد أطوالها عن الساعة والساعتين وما حولهما.. يتوجب معها توفير الصحف الورقية لكل ركاب الدرجات (الثلاث)، وما يقل عن ذلك.. يمكن الأخذ فيه بمبدأ (التوفير) إن كان وارداً!! وإن كان الأفضل والأميز لـ(الخطوط السعودية).. التي نجحت بالتميز في و(جباتها) لكل الدرجات.. أن تضيف إلى ذلك التميز.. تميزاً آخر هو وجود الصحافة الورقية وتوفيرها، لكل ركاب درجاتها الثلاث.. وأياً كان طول الرحلة أو قصرها..!!
اما إيقاف (الصحافة الورقية) عن ركاب درجة (الضيافة) وحدهم لأي (افتراض).. فهو ظلم لـ(الطرفين): لركاب درجة الضيافة.. ولـ(الصحافة الورقية) بحد سواء...!! إلا أن يستند هذا الإيقاف على دراسة إحصائية موضوعية...؟!
* * *
وكعادتي.. بعد انقضاء الثمانية والأربعين ساعة الأولى من عودتي إلى (ديفون) في كل عام.. بدأت بـ(تفقد) تلك المدينة الصغيرة والجميلة.. بـ(المرور) في شوارعها وميادينها، وتأمل (نوافيرها) وأحواض زهورها التي تشعرك نضارة ألوانها.. كما لو أنها وضعت في تلك الأحواض قبل ساعة.. لا أكثر!!، فـ(حديقة) بلديتها.. التي أقامتها (البلدية) رغم أن المدينة تقع وسط غابة كثيفة من الأشجار، ولكنها أرادت أن توفر لأطفال ديفون حديقة آمنة.. يلعبون فيها دون خوف عليهم، وقد وضعت في داخلها (مكتبة) صغيرة.. ومجموعة من مراجيح الأطفال وألعابهم (المجانية).. إلى جانب مطعم و(كافتيريا) لخدمة الأطفال وذويهم، وقد اتسع هذا المطعم، وتطور وارتقت أدواته ومقاعده وطاولاته إلى حد أنه استضاف مجموعة السعوديين في (ديفون) في صبيحة عيد الأضحى الماضي المبارك للاحتفال بـ(العيد).. بحضور عمدة السعوديين في (ديفون): الصديق العزيز الدكتور عبدالله دحلان، الذي سبق الجميع إليها.. وكان ساكنها الأول من السعوديين بعد أن تم اختياره لـ(عضوية) منظمة العمل (الدولية) ممثلاً لـ(رجال الأعمال) في مجلس إدارتها. فشد بوجوده فيها عشرات السعوديين.. ليأتوا إليها، ويقيموا فيها.. مع عوائلهم.. للاصطياف فيها كل عام.. لتتزايد أعدادهم عاماً بعد عام.. حتى أصبحوا يشكلون (التجمع) العربي (الثاني) في المدينة.. بعد تجمع الأشقاء الكويتيين الذين يحتلون المركز (الأول) بين التجمعات العربية في المدينة، وقد كان لطفاً من (محافظ) مدينة ديفون.. أن يطلق اسم الدكتور عبدالله دحلان على أحد شوارع المدينة: تقديراً لمحبته لـ (ديفون).. وتشجيعه (السعوديين).. للقدوم إليها والاصطياف فيها.. أما المجموعة الأكبر غير (العرب) في ديفون.. فهم (الفرانكفونيون) من الجزائر والمغرب وتونس.. الذين يحمل الكثير منهم الجنسية الفرنسية، فقد ولد الكثيرون منهم لآبائهم.. المهاجرين الأوائل إلى (فرنسا)، ولكنهم اختاروا العيش والعمل في المدن الفرنسية الصغيرة كـ (ديفون) وفرنيه وأمثالهما.
* * *
لم أتعب من تطوافي.. فـ(لوحات) الجمال التي كانت تتعاقب علي لا تتعب.. ولكنني آثرت التوقف في أكبر وأطول شوارعها العرضية: شارع «فولتير».. الذي سمُى على اسم السياسي والأديب الفرنسي الساخر الشهير: (فرنسوا فولتير).. صاحب مسرحيتي (أوديب) و(بروتس) وغيرهما، الذي عاش ومات بين القرنين السابع والثامن عشر، لآخذ مكاني في مقهى الشارع الأشهر والأوجه: مقهى (الفصول الأربعة).. فقد كان ما يزال أمامي بعض الوقت للقاء مجموعة الأصدقاء والزملاء الأعزاء الذين يتجمعون في مقهى (شارلي شابلن) عند الساعة الثانية عشر ظهراً.. لتبادل أخبار الوطن الحاضر في قلوبنا وعقولنا في كل زمان ومكان.. إلا أنني أخذت أشغل وقتي في مقهى الفصول الأربعة بـ(تذكر) حياة الأديب والسياسي الفرنسي (فولتير)، الذي عانى رغم ثرائه أو (بورجوازيته).. حتى استضافه (الباستيل) لأحد عشر شهراً.. ولكنه عندما مات جُمعت أعماله الكاملة في (سبعين) مجلداً بين الرواية والقصة والمسرحية والمقالات.
ومع أن (الزمن) ينسي.. إلا أنني لم أنس له كلمته الخالدة الساخرة: (النجاح خطيئة.. يرتكبها المرء بحسن نية!! ومع ذلك لا يغفرها له الآخرون)!!