حمّاد السالمي
عامًا بعد عام يزداد عدد المعتمرين والحجاج إلى بيت الله الحرام والمشاعر المقدسة وطيبة الطيبة. المملكة -بحمد الله- تعمل منذ عشرات الأعوام على تهيئة وتطوير هذه الأماكن المقدسة بما يكفل استيعاب ملايين الحجاج والمعتمرين، ويوفر لهم خدمات راقية في السكن والمعيشة والتنقل. ومما هو معلن في هذه المسألة بالذات أن المملكة سوف تستقبل في سنوات قليلة قادمة خمسة ملايين معتمر، وتستقبل مع نهاية (رؤية المملكة 2030) ثلاثين مليون حاج ومعتمر سنويًّا. هذا خلاف ملايين آخرين ننتظر وصولهم سنويًّا لغرض السياحة فقط من مسلمين وغير مسلمين.
* إن الهدف الأول والأسمى لهذه الحشود المليونية السنوية إلى الأراضي المقدسة هو العبادة دون شك، ولكن أكثر هؤلاء المسلمين هم على درجة كبيرة من العلم والوعي والمعرفة بتاريخ الإسلام وسيرة المصطفى صلوات الله وسلامه عليه. والكثير منهم يحرص - إلى جانب أدائه فريضة الحج والعمرة - على رؤية المعالم التاريخية والجغرافية المرتبطة بسيرة الرسول الأعظم صلوات الله وسلامه عليه. إن تحقيق هذه الرغبة السامية يحقق أكثر من مصلحة، لا تقف عند طالبيها من ضيوف البلد الحرام، ولكنها تتعدى إلى اقتصاد البلد في مدن كبيرة مكتظة بالسكان، هي: (مكة المكرمة، والمدينة المنورة، والطائف، وجدة)؛ ففي هذه المدن يوجد ملايين المواطنين الذين وُلدوا وعاشوا على مهنة الطوافة وخدمة المعتمرين والحجاج، وهي مهنة تدخل في صلب السياحة التي لها أهدافها وخططها وفوائدها على البلد وأهله. الحقيقة أنا مندهش من تحسس بعض المسؤولين من ربط السياحة بالحج والعمرة؛ إذ يتوقف تفكيرهم عند أخذ المعتمر والحاج من الميناء والمطار إلى مكة والمدينة لأيام قليلة، ثم تسفيره دون أن يرى شيئًا غير الكعبة المشرفة، والحرم المكي الشريف، والحرم المديني، ثم منى ومزدلفة وعرفات؛ وكأن حركة الحجاج والمعتمرين وتجوالهم في المدن والقرى والأماكن المرتبطة بسيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم جرم ومحظور، لا يجوز الاقتراب منه.
* أتذكر أن الرئيس الإيراني الأسبق علي هاشمي رفسنجاني في زيارته للمملكة عام 2008م طلب زيارة مواقع ومساجد لها صلة بسيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالطائف. كنت مرافقًا له ولوفد كبير معه في هذه الجولة، وقد أدهشني معرفته بتاريخ مساجد إسلامية، ومواقع مثل المثناة ووادي النمل وغيرها. وهذا حال كثيرين من عرب وعجم، لا تقف تطلعاتهم عند أداء الفريضة فقط، ولكن رحلة الحج والعمرة توفر لهم فرصة ثمينة لزيارة جبل النور، وجبل ثور، وطريق الهجرة، وأمكنة لها صلة وثيقة بحياة رسولنا - صلى الله عليه وسلم - في المدن التي عاش فيها، وزارها، وتنقل بين جنباتها، وفي المقدمة مكة المكرمة، ثم المدينة المنورة، فالطائف.
* تمتلك المملكة العربية السعودية (ثروة نابضة)، هي آثارها الإسلامية والتاريخية، في مقابل (ثروة ناضبة) هي النفط. ونعرف جيدًا كيف بدأت بلادنا في (التحول الوطني 2020) تتفلت من أسر النفط، وتتخلص من تبعات الاعتماد على دخل البترول، فتسعى إلى تنويع مصادر الدخل، والسير في هذا الاتجاه الطموح نحو (رؤية المملكة 2030)، باقتصاد قوي لا يركن إلى النفط وحده. ومن ضمن المصادر الواعدة التي تم الكلام عليها في مضامين الرؤية ظهور السياحة، وتشجيع الاستثمار في ميادينها المختلفة؛ فبدأ العمل في مدينة (نيوم)، و(مشروع القِديّة)، و(البحر الأحمر).. وكلها بوابات عصرية، تفتح على المستقبل الواعد، الذي يستغل الإمكانات كافة، الجغرافية والتاريخية والبشرية؛ لتحقيق أفضل المستويات المعيشية والحضارية للسعودية والسعوديين.
* نشهد اليوم شركات مستضيفة للحجاج والمعتمرين، تأخذ الراغبين منهم إلى خارج حدود مكة لغرض زيارة الأماكن التاريخية، خاصة تلك المرتبطة بالسيرة النبوية الشريفة؛ فهم في الطائف يزورون مسجد عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، ومسجد عداس في المثناة، وبقية المساجد من حوله.. هذا كمثال، وهذه بداية جيدة لسياحة مربحة على هامش الحج والعمرة، لكن.. هناك من يعرقل هذا التوجه السياحي المفيد معرفيًّا لهؤلاء الضيوف، واقتصاديًّا للعاملين في هذا القطاع. لم أجد أي مبرر لهذا الموقف السلبي الذي تظهره بعض الجهات، ويصدر عن مسؤولين يفترض أنهم يعملون وفق التحديث والتغيير الذي تقوده خطة (التحول الوطني 2020) نحو (رؤية المملكة 2030)، ويأتي من أهدافه: استغلال آثار البلاد ومعالمها التاريخية والجغرافية في تنمية سياحية شاملة، تشكل بديلاً اقتصاديًّا للنفط، الذي لا بد أن ينضب ذات يوم، ويقل الطلب عليه مع مرور الأيام.
* قبل أن نفتح بوابات المطارات والموانئ لمعتمرين وحجاج وسياح في آن واحد لنفتح أذهاننا أولاً إلى أن هذا إحدى أهم ركائز التحول، ومن ثم الرؤية في عهد مليكنا المفدى (سلمان بن عبد العزيز)، وولي عهده (الأمير محمد بن سلمان).