محمد عبد الرزاق القشعمي
تمهيد
يذكر (ألكسندر ستيتشفيتش) في كتابه (تاريخ الكتاب) أن الباحث الاختصاصي بشؤون الطباعة في الشرق الأقصى (ث. ف كارتر) استطاع في كتابه (اختراع الطباعة في الصين وانتشارها باتجاه الغرب) أن يبرر عدم اهتمام العرب أو تأخر اهتمامهم باكتشافات الطباعة بواسطة القوالب الخشبية ثم بواسطة الحروف المتحركة المكتشفة في آسيا كاليابان وكوريا والصين، مما حرم أوروبا من وصول الطباعة؛ لأن التأثيرات الثقافية والسلع التجارية كانت تسير باتجاهين عبر (طريق الحرير) المعروف بحركته الدائمة.
ويرجع ذلك إلى عدم اهتمام العرب بهذه الاكتشافات، مما أدى الأمر إلى تأخر انتقالها إلى الغرب؛ ويرجع ذلك لأسباب دينية؛ إذ رفضوا أن تطبع كتبهم المقدسة بوسائل ميكانيكية مما أخر انتشار الطباعة من الشرق الأقصى إلى أوروبا. وقال: «.. وفي الواقع إن العرب المسلمين قد رفضوا طباعة القرآن حتى في العصور المتأخرة، ويبدو من المثير هنا أن تسجل ما حصل في إسطنبول للموعد إبراهيم الهنغاري الذي طلب سنة 1727م إذنًا لتأسيس مطبعة في المدينة. وقد حصل أولاً على فتوى صريحة من العلماء ترفض بشدة طباعة القرآن على أساس أن هذا يتعارض مع الإسلام، ثم حصل أخيراً على موافقة بتأسيس مطبعة بشرط ألا يطبع فيها القرآن. وإذا استثنينا بعض الحالات نرى أن العرب لم يكونوا ليسمحوا بتأسيس المطابع في بلادهم.
وهكذا فقد تأخر عمل أول مطبعة في مصر إلى سنة 1825م. وعلى كل حال فإن القرآن قد بدئ في طباعته منذ القرن الخامس عشر الميلادي ولكن خارج المنطقة العربية، فقد طبع للمرة الأولى في فيينا خلال سنوات 1483 - 1499هـ، بينما طبعت عدة كتب عربية أخرى في مدينة فانون بإيطاليا الوسطى خلال 1514م».
ويذكر أنه قد اكتشف في آثار مدينة قديمة بالقرب من الفيوم بمصر نصوص لحوالي خمسين كتابًا، تم إنتاجها بواسطة الطباعة بالقوالب الخشبية خلال سنوات 900 - 1350م. وكانت هذه الكتب دون استثناء مكتوبة باللغة العربية، وتناولت موضوعات دينية، وهي اليوم محفوظة في المكتبة الوطنية في فيينا. واختتم بقوله: «إن الباحثين الاختصاصيين الذين اهتموا بهذه المطبوعات النادرة في العالم الإسلامي قدموا براهين مقنعة بما فيه الكفاية لتكوين رأي يقول إن هذه الكتب المطبوعة قد ظهرت بتأثير مباشر أو غير مباشر للتقنية الصينية في الطباعة بالقوالب الخشبية؛ ولذلك فهي تعتبر جسراً مهماً بين الطباعة التي ظهرت أولاً بالشرق الأقصى والطباعة التي ظهرت لاحقاً في أوروبا في نهاية العصر الوسيط.. «.
الطباعة الحديثة
وقد بدأت الطباعة الحديثة قبل نحو 580 سنة. وكانت الرسائل والكتب قبل ذلك تكتب بخط اليد.
وقد اخترع الألماني (جوهانس جو تنبرج) حوالي عام 1440هـ الطباعة بالحروف المتحركة.
وقد ظهرت أول حروف طباعة عربية على يد (مارتن روث) عام 892هـ/ 1486م الذي طبع ترجمة لكتاب (برنارد برايد بناخ) عن رحلته إلى الأماكن المقدسة. وكانت المحاولة الثانية في إسبانيا عام 911هـ/ 1505م بصدور كتاب (وسائل تعلم قراءة اللغة العربية ومعرفتها). والمحاولة الثالثة كانت طبع الإنجيل عام 1000هـ/ 1591م.
وأول مطبعة في تركيا أُنشئت عام 1140هـ/ 1727م، وقد اشتُرط إلا يطبع عليها القرآن الكريم.
وأول مطبعة أنشئت بلبنان عام 1165هـ/ 1751م ولم يكتب لها الاستمرار.
وعرفت مصر المطابع مع قدوم الحملة الفرنسية عام 1213هـ/ 1798م، لكنها توقفت بعد رحيل الحملة عام 1216هـ/ 1801م.
وأسس محمد علي أول مطبعة، ما زالت باقية حتى الآن، هي مطبعة بولاق عام 1235هـ/ 1819م، وكان أول ما طبعته قاموس عربي/ إيطالي، واستمرت تطبع كل المطبوعات بما فيها (الوقائع المصرية)، بوصفها أول جريدة تصدر في مصر.
وعرفت أول مطبعة حجرية بالعراق عام 1246هـ/ 1830م، ولم تستمر طويلاً، ثم ترسخت الطباعة واستقرت بها عام 1856م.
وعرفت الطباعة بفلسطين عام 1246هـ/ 1830م، وفي اليمن عام 1294هـ/ 1877م، وفي مكة المكرمة 1300هـ / 1882م، وفي السودان مع بداية العقد الثامن من القرن التاسع عشر الميلادي، وبالأردن عام 1341هـ/ 1922م، وبالكويت عام 1366هـ/ 1947م، وكانت معظمها من أجل طباعة الكتب والصحف.
واليوم تستخدم المطابع العربية أحدث أجهزة الطباعة في العالم في الجمع والطبع والإخراج والمونتاج والقص والتجليد والتطبيق وغيرها.
(1) الطباعة في المملكة
ويذكر عثمان حافظ في كتابه (تطور الصحافة في المملكة العربية السعودية): «.. أنشأت الحكومة العثمانية مطبعة الولاية بمكة المكرمة عام 1300هـ الموافق 1882م، وهي أول مطبعة تؤسس في الحجاز..».
ويؤكد ذلك محمد العبدالرحمن الشامخ في كتابه (نشأة الصحافة في المملكة العربية السعودية) قائلاً: «.. أما الجزيرة العربية فلم تعرف الطباعة إلا في عام 1877م، وذلك عندما أسست الحكومة العثمانية المطبعة الرسمية في صنعاء باليمن، وكانت مكة المكرمة ثاني مدينة من مدن الجزيرة العربية تعرف فن الطباعة حيث أنشأت الحكومة التركية فيها مطبعة رسمية في عام 1300هـ (1883م). وأسس والي الحجاز عثمان نوري باشا مطبعة حكومية بمكة المكرمة، هي مطبعة الولاية أو المطبعة الميرية كما كانت تسمى في بعض الأحيان، وقد أنشأها الشيخ أحمد بن زيني دحلان، وهو يهدف إلى أن يطبع فيها كتب العلوم ليكثر انتشار العلم في موضع مهبط الوحي المكين». وكانت المطبعة في بادئ أمرها مطبعة يدوية، وصفها محمد سعيد عبدالمقصود بأنها عبارة عن (ماكينة بدال صغيرة). وأضاف بأن الحكومة التركية قد زودتها في عام 1302هـ (1884 أو 1885م) بآلة طباعة متوسطة. وقد أشار رشدي ملحس في عام 1347هـ (1928م) إلى الإصلاح الذي أدخل على هذه المطبعة في عام 1302هـ فقال إنه قد جلب لها حينئذٍ (ماكينة كبيرة وأدوات أخرى هي الموجودة اليوم).
وقال إنه قد ورد في العدد الثاني من التقويم الرسمي لولاية الحجاز (حجاز ولايتي سالنامة سي) حديث عن هذه المطبعة وعما حققته من تطور خلال سنواتها الثلاث الأولى، جاء فيه: «سبق أن جرى في عهد الخلافة - عهد العلم والمعرفة - جلب آلة طبع وكمية من الحروف، وتعيين اثنين من الموظفين للمطبعة التي تأسست في ولاية الحجاز منذ ثلاث سنوات. وقد قامت هذه المطبعة بالغرض المنشود في أول الأمر، ولكن حيث إنه كان هناك عدد من المؤلفات المتراكمة التي كانت ترسل من سنوات إلى الخارج للطباعة فقد أحضرت من فيينا آلة طبع ذات عجلة واحدة، وكمية وافية من الحروف؛ ولهذا تطورت مطبعة الولاية، واتسع نطاق عملها، وأصبحت هذه الكتب تطبع فيها. كما أنها قامت بطبع بعض الكتب الجاوية بعد أن زودت بحروف جديدة ملائمة لهذه اللغة. وقد طُلبت من أوروبا أخيراً آلة طبع خاصة لطبع الرسائل المتنوعة المُشكّلة، وقد استطاع أبناء البلد خلال هذه المدة القصيرة أن يتعلموا فن صف الحروف وتجليد الكتب».
وذكر الشامخ أنه بعد رحيل مؤسسها عثمان نوري باشا أصابها الإهمال.. إلى أن قال:
«.. ولكن يد الإصلاح ما لبثت أن امتدت إلى هذه المطبعة؛ فقد عادت جريدة (حجاز) بعد حوالي عام ونصف العام من هذه الشكوى؛ فأشارت إلى أن مطبعة الولاية قد عُمّرت، وأدخلت عليها بعض الإصلاحات..».
وقال إن أول ما قامت به مطبعة الولاية هو إنجاز التقويم الرسمي لولاية الحجاز (حجاز ولايتي سالنامة سي) حيث صدر العدد الأول من هذه السالنامة عام 1301هـ (1883 أو 1884م).
وقد أسهمت مطبعة الولاية - كما قال المستشرق الهولندي سنوك هرخونيه الذي زار مكة متنكراً في عام 1884م - في طبع بعض مؤلفات علماء الحرم المكي الذين كانوا يطبعون مؤلفاتهم في مصر من قبل..
وقال إن مطبعة الولاية كانت حريصة على طبع كتب التراث والمؤلفات التعليمية خلال سنواتها الثلاث الأولى؛ فقد أوردت السالنامة في عام 1303هـ (1886م) قائمة تشمل خمسة وأربعين كتاباً، تم طبعها فيها باللغتين العربية والملايوية..
إلى أن قال: ومهما يكن الأمر فإن أهم عمل قامت به هذه المطبعة هو طبع أول جريدة تصدر في ولاية الحجاز، تلك هي الجريدة الأسبوعية (حجاز) التي صدرت في 8/ 10/ 1326هـ (3/ 11/ 1908م)، واحتجبت عن الصدور بعد حوالي سبع سنوات. ولم يقتصر إسهام مطبعة الولاية في مجال الصحافة على نشر جريدة (حجاز)؛ فقد طبعت فيها كذلك جريدة (شمس الحقيقة) الأسبوعية التي صدرت بمكة المكرمة في 16/ 2/ 1909م، كما طبعت فيها نسختها التركية المسماة بشمس حقيقت.
وقال إن المطبعة كانت تطبع لآخرين بأجر، وذكر كتاب (أسنى المطالب في مناقب سيدنا علي بن أبي طالب) للجزري، وكتب عليه إن هذا الكتاب قد طبع في مطبعة الولاية عام 1324هـ على نفقة الحاج عمر الميمني والشيخ أحمد المكي.
إلى أن قال: إن هذه المطبعة قد أدت دوراً مهماً على مدى ربع قرن؛ فنشأت الصحافة في ظلها، وبعد نهاية الحرب العالمية الأولى آلت المطبعة إلى الحكومة الهاشمية التي اتخذتها مطبعة رسمية، وأصبحت تطبع بها جريدة (القبلة).
وقيل إن جريدة (شمس الحقيقة) قد أنشأت مطابع خاصة بها عام 1327هـ، وقد اشتراها بعد سنة الشيخ محمد ماجد الكردي الذي طبع كثيراً من الكتب المهمة، كما أنشأ مكتبة خاصة، كانت مخطوطاتها ومطبوعاتها من أنفس ما تحتويه مكتبات مكة المكرمة. وقد سمى المطبعة (مطبعة الترقي الماجدية) بمحلة الفلق في مكة المكرمة.
ونشر عباس بن صالح طاشكندي قائمة بمطبوعات المطبعة الميرية خلال الفترة العثمانية من عام 1300هـ/ 1882م. نذكر ما طبعته في سنتها الأولى 1300هـ:
المؤلف العنوان
1، 2 - أبو الليث السمرقندي تنبيه الغافلين وبستان العارفين.
3 - النابلسي تحفة الصبيان في الفقه على مذهب النعمان.
4 - إبراهيم بن أبي بكر الأزرق تسهيل المنافع في الطب والحكمة.
5 - ابن كمال باشا رجوع الشيخ إلى صباه.
6 - أبو بكر أحمد الذهبي الطب النبوي.
7 - شهاب الدين أحمد بن النقيب عمدة السالك وعدة المسالك.
8 - محمد بن سليمان المدني الكردي فتح القدير باختصار متعلقات نسك الأجير.
9 - النابلسي كفاية الغلام.
وهكذا استمر بنشر قوائم بالمطبوعات كل سنة على انفراد حتى عام 1339هـ الموافق 1920م.
وفي جدة أنشأ راغب مصطفى توكل مطبعة الإصلاح في 26 ربيع الآخر 1327هـ (17 مايو 1909م). وقد قامت بطبع جريدة (الإصلاح الحجازي) وبعض الكتب، ولكنها لم تعش طويلاً.
وفي المدينة المنورة ظهرت المطبعة العلمية عام 1329هـ/ 1910م لكامل خجا رئيس تجار المدينة، كما أنشأت الحكومة العثمانية مطابع الحجاز، وأصدرت جريدة (الحجاز)، ولم تعش طويلاً؛ إذ قامت الحرب العالمية الأولى، وبعدها خرج الأتراك من المدينة المنورة.
وبمجرد خروج الأتراك تعطلت المطبعتان، وقيل نُقلتا مرة أخرى، ولم يبق بالمدينة سوى مطبعة صغيرة تدار باليد، اسمها مطبعة طيبة الفيحاء التي أسسها أحمد الفيض أبادي وعبدالحق النقشبندي. وظلت هذه المطبعة حتى عام 1355هـ/ 1936م عندما أحضر علي وعثمان حافظ مطبعة المدينة المنورة من مصر التي طبعت مجلة المنهل عام 1355هـ وجريدة المدينة المنورة مطابع عام 1356هـ/ 1937م.
وفي الدمام من المنطقة الشرقية تأسست شركة (الخط للطبع والترجمة والتأليف) بداية عام 1373هـ، وكان يشرف على مطابعها عبدالله بن عبدالرحمن الملحوق ومجموعة من المساهمين.
وقد انضم لهم عبدالكريم الجهيمان في العام نفسه، ثم طلبوا من ولي العهد الأمير سعود بن عبدالعزيز إصدار جريدة باسم الظهران التي صدر عددها الأول في مطلع شهر جمادى الأولى 1374هـ. وفي العام ذاته أحضر الشاعر خالد الفرج مطابع سماها (المطابع السعودية) بالدمام، لكنه توفي قبل أن تبدأ العمل؛ فطبعت المطابع السعودية جريدة (الفجر الجديد) في شهر رجب 1374هـ، وما لبثت أن توقفت.
وفي الرياض عاصمة المملكة أسس الشيخ حمد الجاسر (مطابع الرياض) في شهر شعبان 1374هـ، وطبع بها العدد التاسع من السنة الثانية من مجلة اليمامة الشهرية لشهر رمضان 1374هـ الموافق مايو 1955م بعد أن كانت تطبع بالقاهرة، وقصة لقائه مع محب الدين الخطيب ونصيحته بتأسيس مطبعة بالرياض..
وفي المنطقة الجنوبية أسس محمد بن أحمد العقيلي (مطبعة جيزان) عام 1385هـ/ 1965م، ولم تبدأ العمل إلا في عام 1387هـ. وكان العقيلي ينوي إصدار جريدة تحمل اسم جازان. وقد نشر خبرًا عن نيته في مجلة (قريش) عدد (133) بتاريخ 24/ 1/ 1382هـ. وفي الثمانينيات الهجرية شهدت أهم المدن السعودية الأخرى إنشاء مطابع تجارية محدودة، تطورت فيما بعد.