الثقافية - حمد الدريهم:
يُعَدُّ الدكتور عبدالله المطيري أستاذ الأصول الفلسفية للتربية بجامعة الملك سعود من المهتمين بقضايا الفلسفة وشؤونها، عبر كتاباته في الصحافة ومساهمته في تأسيس الحلقة الفلسفية بالنادي الأدبي بالرياض، التي أثمرت نشاطًا فلسفيًا ملاحظًا في السنوات الأخيرة ضمن إطار مؤسسي رسمي في المملكة. «الجزيرة الثقافية» حاورته حول ذلك النشاط إضافة إلى بعض قضايا الفلسفة وشؤونها، فإليكم الحوار:
* يقول الفيلسوف الإنجليزي برتراند رسل: «إن العلم هو ما تعرف والفلسفة هي ما لا تعرف»، فهل يمكن أن نقبض على الفلسفة في تعريف جامع مانع؟
- الفلسفة طريقة ومنحى للتفكير، وبالتالي يبدو أن الحل لتعريفها يكمن في تحديد توجهها كما فعل راسل. الفلسفة متوجهة ناحية ما لا نعرف. جون ديوي لديه عبارة قريبة من هذا المعنى. يقول ديوي «الفلسفة هي التفكر فيما يطلبه المعلوم منا». العلوم التجريبية تقدم لنا معلومات ثمينة ومهمة. واجب الفلسفة يكمن في الإجابة على هذا السؤال: ثم ماذا؟ So what? ماذا تعني لنا هذه المعرفة الجديدة؟ كيف يجب أن تعدل من تفكيرنا ورؤيتنا للعالم ولأنفسنا وللآخرين؟ ماذا تعني المعلومات الجديدة أخلاقياً ومعرفيًا وميتافيزيقيًا؟ الفلسفة حركة في هذا الاتجاه، ولذا فهي قريبة من العلوم الأمبيريقية، تراقب إنتاجها وتتعلم منها يوميًا. في جامعة Florida State التي درست فيها كان قسم الفلسفة مشغول بسؤال حرية الإرادة Free will، وتلاحظ أن المؤتمرات التي يعقدها القسم لبحث هذا الموضوع تستضيف علماء وفلاسفة، علماء في علم النفس والأعصاب وفلاسفة في مختلف المجالات. الحوار بين المنتج العلمي الطبيعي والمناهج الفلسفية يعبر عن أحد أهم تجليات الفلسفة المعاصرة في العالم.
* المتابع بدقة للمشهد الثقافي السعودي سيجد حراكًا فلسفيًا؟ فهل سيُروى عطش التفلسف في المملكة قريبًا؟
العطش للمعرفة والتفلسف لا يمكن إرواؤه بالكامل بسبب أن التجربة الإنسانية لا تكف عن طرح المزيد من الأسئلة والمشكلات. الحراك الفلسفي في السعودية يفترض أن يرافق هذه التجربة ويتعلم منها ويزودها بما يستطيع من التحليل والتبصّر الفلسفي. الأمل أن يزداد عطش التفلسف وينتشر بين أعداد أكبر من المهتمات والمهتمين في المجتمع. الفلسفة شريك مهم في المجال المعرفي في أي مجتمع، ومساهمتها في المجتمع المعرفي السعودي لا تزال محدودة جدًا رغم كل النشاطات المتوفرة الحالية كحلقة الرياض الفلسفية والنشاط الفردي المتداول في الإنترنت. لا نزال لا نملك أقسامًا لتدريس الفلسفة في الجامعات كما هو موجود في أغلب جامعات العالم، وكذلك لا توجد جمعية فلسفية سعودية تنظم الملتقيات والندوات والنشر العلمي في المجال الفلسفي.
* يقول الناقد الأستاذ علي العميم: «إن التجربة الفلسفية السعودية لا أعوّلُ عليها... وشبابها أغلبيتهم من خلفيات صحوية». هل الإدراك العميق المبكر للفلسفة من عمر الإنسان أقوى أثراً من أن يمر بخلفيات مسبقة قد تؤثر في اللاوعي لديه وبالتالي في نتاجه الفلسفي؟
- العبارة المقتبسة في السؤال تتكون من شطرين: الأول رأي والثاني معلومة. في البداية لابد من التعليق على المعلومة، فهي غير صحيحة، على الأقل فيما يتعلق بأعضاء حلقة الرياض الفلسفية. كما لا أعتقد أنها صحيحة خارج إطار أعضاء الحلقة. لا أعلم أن الأستاذ العميم قدم شاهدًا على صحة هذه المعلومة غير النطق بها أو كتابتها. لكن من ناحية المبدأ فلا يوجد مانع ضروري لتفلسف الإنسان مهما كانت خلفيته الفكرية. يبدو أن العميم يحيل هنا إلى أن الصحوة تشكّل سمات في شخصية الإنسان لا تتغير أو يصعب أن يتغير حتى لو تغيرت توجهاته الفكرية، وهذه نظرة لا ترى جانب الحرية والقدرة على التغير في جانب الشخصية الإنسانية وتنزع لتثبيت ملامح الشخصية بناء على تجارب سابقة. هذا موقف محافظ جدًا.
* لماذا -برأيك- البعض يشبّه ويقارن بصورة دائمة بين حالة التخلّف في العصور الوسطى بأوروبا وبين حالة التخلّف الآنية بالشرق الأوسط؛ بالرغم من اختلاف الجغرافيا والزمن والتاريخ المتراكم بين المنطقتين، ألسنا حالة استثنائية تاريخية؟
- أعتقد أن السبب يكمن في تشابه الظروف بين أوربا القرون الوسطى والشرق الأوسط من النواحي التالية: علاقة الدين بالسياسة، طبيعة الأنظمة السياسية، سيطرة التيارات الدينية على المجال العام، وضع المرأة، وضع حريات التعبير والتفكير بشكل عام. لا أعتقد أن هناك حالات استثنائية في التاريخ، هناك حالات مختلفة باختلاف الظروف والتجارب، لكن الاختلاف يحمل في داخله التشابه كذلك. هذا الشعور بالتشابه في التجارب يحضر بشكل مباشرة عن قراءة تجارب فلاسفة عصر العقل والتنوير في أوربا مثل سبينوزا، هيوم، كانت، فو لتير، روسو وغيرهم. القضايا متشابهة وكذلك المواقف النفسية تجاه تلك القضايا متشابهة. المجال هنا غير متاح لاستعراض تجارب تلك الشخصيات، ولكنني متأكد من أن القارئة والقارئ سيلاحظون القضايا المشتركة بيننا وبين تلك الشخصيات وأحيانًا بتفاصيل دقيقة تثير الدهشة.
* إلى أين يمضي الخطاب الفلسفي للمشاريع الفلسفيّة، هل توقف عند الـ(ما بعد)؟
- سياق الـ«ما بعد» ساد لفترة في الفلسفة القارية لكنه محدود جدًا في الفلسفة التحليلية. المشكلة أن أغلب المترجم للغة العربية ينتمي للفلسفة القارية، ولذا تنحجب أعمال فلسفية كثيرة عن القارئ بهذه اللغة. الفلسفة التحليلية منطلقة في مشاريع مهمة جدًا فيما يخص بالأخلاق وفلسفة اللغة والميتافيزيقا. الجامعة التي حصلت منها على الماجستير في الفلسفة Florida State University لديها قسم فلسفة عريق مشغول منذ فترة طويلة بسؤال حرية الإرادة. هذا السؤال يأخذ أبعادًا ميتافيزيقية مرتبطة بسؤال إمكان الحرية مثلاً في عالم جبري، كما يتحرك في مساحات أخلاقية متعلقة بعلاقة حرية الإرادة وعدمها بالمسؤولية الأخلاقية. القسم يمتلك ميزانية معقولة لجمع الفلاسفة والعلماء في مؤتمرات ومشاريع بحث دورية. الفلسفة التحليلية مشغولة بقضايا فلسفية محددة أكثر من انشغالها بتأمل الفلسفة كما هو حاصل في الفلسفة القارية. الفلسفة التحليلية قريبة جدًا من المنجز العلمي المتطور خصوصاً في علم الأعصاب والجينات والدماغ البشري، ولذا فهي قريبة جدًا من قضايا الإنسان الضاغطة في العصر الحديث.
* المتابع بقرب للحراك الفلسفي الافتراضي عبر منصات الإعلام الجديد المختلفة، يجد حوارات عميقة بين المنشغلين بالفلسفة تكون أحياناًً أعمق مما يحدث في اللقاءات والندوات، هل من الممكن أن تُؤرشف تلك الحوارات وينتج عنها تصورات جديدة معتبرة فلسفيًّا؟
- هذه لمحة ذكية ومهمة أخي حمد. فعلاً الحوارات في فضاءات (السوشل ميديا) تمتاز بتحرر من كثير من قيود المنصات التقليدية، وبالتالي فهي مهيئة للخروج بالجديد والمختلف والمفاجئ. هذه المنصات جعلت التواصل بين المهتمات والمهتمين بالفلسفة مباشرًا وسريعًا وسهلًا. الأرشفة مهمة جدًا، وأتمنى على المشتغلين بهذه الحوارات إدراجها في مدونات لها طابع الثبات والاستقرار للحفاظ عليها كبداية لحوارات جديدة أعمق وأكثر دقة.
* هل يمكنُ للحراك الفلسفيّ العربي الحالي أن يؤثر في الحراك الفلسفي العالمي المتمثل بالمركزية الغربية، أم أنه سيظل منكفئًا ومشغولاً بأسئلته الفلسفية المتطلّعة للنهضة؟
- لا أعلم حقيقة ما هو المقصود تحديداً بالحراك الفلسفي العربي. إن كان المقصود به الفلسفة المكتوبة باللغة العربية فأنا غير مطلع عليها بشكل دقيق خصوصاً في السنوات الثماني السابقة بسبب سفري للدراسة في الولايات المتحدة الأمريكية. لكن بشكل عام التفلسف يتطلب الانفتاح على المنجز الفلسفي بأي لغة ويتجاوز التقسيمات الأيديولوجية والعرقية للعالم. التقسيم الأيديولوجي للعالم لغرب وعرب أو غرب وإسلام لابد ألا يمر على الفيلسوف بدون نقد وتحليل خصوصاً في عالمنا الحالي حيث التواصل المذهل واللا مسبوق بين البشر. هذه التقسيمات الأيديولوجية تدفعنا في اتجاه نسيان المشترك الإنساني والتركيز أكثر على ملامح الانفصال. في المقابل الخطاب الفلسفي يؤسس لتواصل يتجاوز التقسيمات اللغوية والسياسية والمذهبية. يواجهني أحياناًً في نقاش قضية فلسفية ما سؤال: لماذا لم تناقش ما قاله ابن سينا وابن رشد في هذه المسألة؟ هذا سؤال مشروع إذا كان فعلاً هناك سبب فلسفي للتواصل مع ابن سينا وابن رشد، بمعنى أن يكون لديهما ما يستحق النقاش فلسفياً. لكن في حالات كثيرة يكون الهدف ليس فلسفيًا بل أقرب للسياسي والأيديولوجي، مثل أن نتواصل مع ابن سينا وابن رشد لفك الهيمنة الغربية على التفكير الفلسفي. هذا موقف أيديولوجي ضار جدًا بالبحث الفلسفي لأنه يحكم التفكير الفلسفي ضمن حسابات سياسية مختلفة تمامًا.
* كيف يمكن للفلسفة أن تؤدي دورًا مباشرًا وفاعلاً في الوقت الحالي؛ لإنهاء الحروب والصراعات الإقليمية؟
- لست متأكدًا من إمكان الدور «المباشر» للفلسفة في إنهاء الحروب والصراعات الإقليمية. لكن إذا تحدثنا عن الدور طويل المدى والمرتبط بالتعليم وتأسيس فضاء عام أقل اندفاعًا باتجاه العنف وأكثر قدرة على التواصل فالفلسفة لها دور بالتأكيد. في هذه الحالة سينطلق الحديث المهم من هذا السؤال: عن أي فلسفة نتحدث؟ هل نتحدث عن الفلسفة التي تنطلق من مركزية الذات وبالتالي تعزز المنطق الأناني أم الفلسفة الغيرية التي تأخذ الآخر بعين الاعتبار عند التأمل الفلسفي. فيلسوف الغيرية ليفيناس يرى أن مشكلة الفلسفة القديمة والتي يمكن أن تجعل منها معززًا لمنطق العنف أنها اهتمت أكثر بالتشابه وبالذاتية وأهملت الدور الأولي للآخر ليس فقط في مشاركة الذات بل حتى في تأسيس مفهوم الذات نفسها وتفكيرها ولغتها. الفلسفة المشغولة بالحرية وتنسى المسؤولية تدفع باتجاه العنف. باعتبار أن الحرية بلا مسؤولية ترسم صورة الإنسان الوحيد في العالم. الإنسان الذي يختفي الآخرون من وجوده إلا باعتبارهم وسائل لتحقيق غاياته وأهدافه. هذا الكائن الأناني متسق مع عالم العنف. العنف هنا مخاتل لأنه يحاول أن يظهر باعتباره ضرورة طبيعية أو حتى باعتباره خيرًا كما حاولت أن أوضح ذلك في محاضرتي الأخيرة في حلقة الرياض الفلسفية بعنوان «الخير العنيف والعنف الخيّر في فلسفة أفلاطون».
* أشرت في ورقتك الفلسفية المعنونة بـ: « إشكالية العلم في الواقع العربي»؛ بأن الفلسفة العقلانية وصلت مشوهة في الثقافة العربية، وتحت سلطة دينية وفي لباس مدرسي ولا تزال متعثرة حتى الآن؛ ألم يمحُ زمن الحداثة السائلة الكونية ذلك التعثر بعد؟
- الورقة المشار لها في السؤال قدمتها قبل نحو تسع سنوات ولو عاد بي الزمن لعدلت العنوان ليصبح «إشكالية العلم في الثقافة الإسلامية»، باعتبار أن الورقة مشغولة بطبيعة الاتصال الأول بين الثقافة الإسلامية والمنتج العلمي الإنساني السابق عليها. إشكالات الترجمة الأولى للعربية معلومة وكانت في كثير من الأحيان نتيجة للاتصال بالأفلوطينية المحدثة «نسبة لأفلوطين وليس لأفلاطون» وتأويلاتها أكثر من الاتصال بالمنتج الأفلاطوني والأرسطي مباشرة. الأفلوطينية المحدثة حاولت تقديم الفلسفة اليونانية العقلانية ضمن أفق ديني مما أفقدها كثيرًا من أصالتها العقلانية. الاتصال الأول بالفلسفة في الثقافة الإسلامية شهد كذلك إشكالات تتعلق بنسبة كتب لغير أهلها كما حدث مع الفارابي. هذه إشكالية كبيرة أضعفت من وصول الفلسفة العقلانية ترافقت مع إشكالية أخرى وهي أن المنتج العلمي والفلسفي كان في غالب الأحيان مراقبًا وتحت إشراف سلطات دينية بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر مما أضعف قدرته على الإبداع والانتشار والتغيير. لا أظن الأمر اختلف كثيراً مع مرور التاريخ.
* أشرتَ في ورقتك المعنونة بـ«الكندي ومهمة تبرير الفلسفة» بأن حكاية الكندي مع أبي العباس توحي إلى خلاف بين النظام المعرفي البياني والنظام المعرفي البرهاني في العقل العربي بحسب الجابري، ألا تزال هذه المشكلة مستمرة بين النظامين في ثقافتنا العربية المعاصرة؛ بالرغم من اختلاف عامل الزمن، وكيف يمكن حل تلك الإشكالية؟
- لا أعلم عن «الثقافة العربية المعاصرة» لكن لو حصرت حديثي عن الثقافة السعودية فسنجد أن المنطق الديني والبلاغي لهما فعلاً السيادة في التفكير الجمعي مقارنة بالمنطق الفلسفي والعلمي. على سبيل المثال نجد أن الجماليات اللغوية لها قيمة أكثر أهمية من دقة العبارة ووضوح المعنى. هذا -برأيي- أحد أسباب ضعف حضور الفلسفة التحليلية محليًا باعتبارها فلسفة تقترب في لغتها من اللغة العلمية والرياضية. نجد في وسائل التواصل الاجتماعي وفي الإعلام بشكل عام احتفاء بشخصيات امتازت بجمال الصياغة اللغوية ولكن بمضمون تقليدي جدًا أو حتى متناقض. الحل -برأيي- أن يأخذ كل مجال حقه في النمو والتطور والإنتاج بعيدًا عن سيطرة الآخر، وهذا ما سيدفع باتجاه تواصل حواري في المستقبل. الفقيه والشاعر يتحركان ضمن ثقافة ممتدة وراسخة بتقاليدها ومؤسساتها. في المقابل الفيلسوف والعالم يقدمان خطابًا مختلفًا دون كل ذلك الدعم والألفة.
* بعض الفلاسفة والمفكرين يدعون إلى فكرة تخلي الدول عن الأيدولوجيات التي ساعدت في نشأتها؛ كيف يمكن التخلي عنها ولا سيما أنها قد تكون ضرورة لبقائها؟
- الفكرة تبدو طبيعية إذا أدخلنا عامل الزمن والتغيّر في المعادلة. بمعنى أنه من الطبيعي أن تتغير الأيديولوجيا التي تتبناها الدولة بناء على التغيرات التي تفرضها حركة الزمن. منطق تثبيت الأيديولوجيا رغم تغيرات الظروف الاقتصادية والسياسية والاجتماعية منطق جمود يهدد الدولة. هذا الجمود ليس فرضية نظرية بقدر ما هو واقع تاريخي مرت به كثير من الدول الأيديولوجية. الاتحاد السوفييتي نموذج على هذه النتيجة. لكن الموقف الأكثر جذرية ربما هو الدعوة إلى أن تتخلى الدولة عن الاعتماد على أيديولوجيا تدعم شرعيتها. دولة الأيديولوجيا هنا تقابلها دولة العدالة والحقوق والتنمية والرفاه الاجتماعي. الدولة هنا لم تعد مهمتها تشكيل المجتمع في ضوء أيديولوجيا معينة بقدر ما هي توفير الشروط الضرورية لكي يشكل أفراد المجتمع أنفسهم ويتواصلوا بطريقة غير محددة سلفًا. إلى درجة كبيرة الدولة الأيديولوجية تناقض منطق الدولة الحديثة باعتبار أن الأيديولوجيات عابرة للحدود، ولذا فهي غالبًا ما تدفع الدول باتجاه تهديد الدولة المجاورة لها. في المقابل هناك دعاوى تقول إن تخلي الدولة عن الأيديولوجيا ينذر بنهايتها باعتبار أنها تفقد معناها ومبرر وجودها. هذا احتمال متوقع حين تفشل الدولة المتخلية عن أيديولوجيتها في تحقيق مبدأ الرفاه والعدالة. ولكن العصر الحديث يشهد استقرار دول كثيرة يمكن أن نقول أنها تتحرك في الحد الأدنى من الأيديولوجيا. دول مثل اليابان والنرويج وكندا ونيوزلندا وما شابهها من الدول نماذج على هذه الدول التي يمكن تسميتها بالدول الليبرالية (دول الحد الأدنى من الأيديولوجيا).
* نُقِدَ التراث العربي والإسلامي على أيدي فلاسفة عرب وبعض فلاسفة الغرب، ما الفرق بينهما، وما تقييمك لهاتين التجربتين ومدى تأثيرهما الحضاري؟
- كون الناقد «عربي» أو «غربي» لا يساعدنا على فهم طبيعة نقده. بعبارة أخرى هذه الأوصاف غير مناسبة لتحليل النقد الفلسفي. الأوصاف المناسبة هي الأوصاف الفكرية والمنهجية مثل: النقد الكلاسيكي، النقد الحداثي، النقد ما بعد الحداثي، النقد التحليلي، النقد المثالي، النقد التجريبي، النقد الموضوعي، النقد الأيديولوجي ..الخ. دراسة الفروق بين هذه المنهجيات والمدارس مهم جدًا. خصوصاً الفرق بين النقد الموضوعي والنقد الأيديولوجي. النقد الذي يتم إنتاجه من قبل أشخاص يعيشون في ظروف عامة تكفل حرية التعبير وتحترم شروط المنهج العلمي متفوق بشكل عام على النقد والدراسة التي يتم إنتاجها في بيئة محدودة الحرية وتعج بالصراعات والتجاذبات الفكرية والسياسية. شخصيًا أجد التحليل والنقد المقدم من الباحثين والباحثات في الجامعات العالمية في أوربا وأمريكا أكثر دقة وعلمية وموضوعية باعتبار التحرر العالي نسبيًا للباحثين في تلك البيئات مقارنة بالبيئات ذات الأغلبية السكانية الإسلامية.
* ما رؤيتك لمستقبل الفلسفة في العالم العربي؛ لاسيما بعد تتابع رحيل الكبار أمثال الجابري وأركون وطرابيشي ومطاع صفدي، وفي السعودية بشكل خاص لاسيما بعد إطلاق رؤية 2030م؟
- لا أظن تقديم نظرة مشتركة عن مجتمعات عديدة متنوعة ومختلفة على مستويات الشروط السياسية والاجتماعية والاقتصادية والجغرافية أمر ممكن إذا تحرينا الدقة العلمية وابتعدنا عن الدوافع الأيديولوجية. لذا سأتحدث عن الفلسفة في السعودية تحديدًا. أشعر بالتفاؤل بمستقبل الفلسفة في السعودية لأننا في طريق تجاوز بعض العقبات الأساسية أمام النشاط الفلسفي. تحديداً عقبة الموقف التاريخي المحافظ المعادي للفلسفة. اليوم نحن أمام فرصة تقديم الفلسفة باعتبارها مجالاً معرفيًا مترافقًا مع حالة التحديث والتطوير في البلاد. حقيقة وجود أقسام الفلسفة في غالب إذا لم نقل جميع جامعات العالم المتفوقة يجب أن تأخذ طريقها لنظام التعليم السعودي. كذلك لدي طموح مع وزارة الثقافة وهيئة الثقافة أن ننجز إنشاء الجمعية الفلسفية السعودية. هذه الجمعية ستسهم بشكل أكبر في تشكيل المجتمع الفلسفي السعودي وستسهم في تقديم المنتج الفلسفي السعودي للعالم بشكل أكبر.