أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: اهتممت بهذا الموضوع لأن إماما كبيرا من أجل أئمة المسلمين: أنكر تأثير الجن في مسألة الصرع؛ وذلك التأثير ثابت بالنصوص الشرعية، وبالتجربة البشرية؛ وذلك هو الإمام الفذ أبو محمد ابن حزم رحمه الله تعالى؛ ولست مجانبا الواقع إذا قلت: إنه أستاذي وبيني وبين وفاته ألف عام ونيف؛ لأنني تتلمذت على ما وصل إلي من مؤلفاته ما بين بلوغي الحلم إلى هذا اليوم، ولست أيضا مجانبا الواقع إذا كان ائتمامي به كثيرا جدا جدا جدا، ونقدي له هو الأكثر الأكثر؛ لأنني أخذت ذلك من توجيهه إذ قال: نحب الإمام (ابن جرير)؛ ولكن الحق أحب إلينا؛ وهكذا (أفلاطون) قال: أحب (أرسطو)؛ ولكن الحق أحب إلي.
قال أبو عبدالرحمن: وحيث بدأت أقول: الجن حقيقة وجودية مغيبة؛ ولهذه الحقيقة المغيبة آثار مشهودة، وقد أخبر الله عن الجن بأنهم يروننا من حيث لا نراهم، وثبت من علم الفيزياء والبصريات أن حاسة البصر لا تدرك إلا الألوان التي تكثف المرئي بأحد الألوان المشهورة؛ فتجعل له حيزا يقع عليه البصر؛ وقد آمن العلم الحديث بالعلم الفيزيائي، وبالتلسكوبات؛ فرأى شيئا من الأجرام الصغيرة التي لا يدركها أقوى رؤية بشرية مجردة؛ فصح أن الرؤية البشرية المجردة لا تدرك الشيىء: إما لبعده، وإما لصغره ودقته، وإما للطافته من حيث لم يتكثف له لون.. وأما (سقراط) والمشاؤون فلا يرمقونهم بأعينهم؛ لأنهم مضللون.. وإذا كان المكبر اليوم بوسيلة علمية يسلط على مسم من مسام الجلد كثقب الإبرة؛ فيرى فيه مئات الأجسام التي لا ترى بالرؤية البشرية المجردة: فليس من البعيد أن يكرم الله عبده ورسوله محمدا صلى الله عليه وسلم؛ فيرى بالرؤية المجردة ما لا يراه غيره؛ وهو رؤيته وإحساسه بالشيطان: إما بتقوية إحساس الرسول صلى الله عليه وسلم، وإما بتكيف المرئي اللطيف؛ لأن الله جل جلاله خارق نواميس الكون: هو الذي خلق الكون والحس والمجاهر والتلسكوبات والبعد والدقة واللطافة؛ فيا ويح من قرأ سورة الجن، وقرأ الآيات المخبرة بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم رسول للجن والإنس، وقرأ خبر ربه بأن الله ما خلق الجن والإنس إلا لعبادته.. وتبليغه صلى الله عليه وسلم جن نصيبين دين ربه؛ فآمنوا به، وكادوا يكونون عليه لبدا، وقرأ ما في القرآن من تعوذات شرعها الله لنا للاعتصام عن الجن، وقرأ في القرآن أن الجن يروننا ولا نراهم، وقرأ في القرآن أن الله سخر الجن لسليمان على أنبياإ الله ورسله صلوات الله وسلامه وبركاته، وكافة المؤمنين من الإنس والجن صلوات الله وسلامه وبركاته عليهم؛ وأنهم لبثوا في مقامهم ما علموا بموته إلا من دابة الأرض تأكل منسأته.. يا ويح من قرأ كل ذلك فألقاه وراأ ظهره، وحمل كل حديث فيه ذكر للجن والشيطان على التكذيب وإن كان صحيح الإسناد حتى لا يستخف حلمه صليبيون وجهوا ثقافة الشرق، وأنكروا حقائق دين الله الذي هو للناس كافة من عباد الإجابة رضي الله عنهم، وعباد الدعوة قاتلهم الله، وآمنوا هم بما تحيله كل العقول.. يا ويح من فعل ذلك وهو يعلم أن العلم البشري الحديث بكل قواه وحوله وطوله ساع إلى تعميق المعرفة الحسية البشرية بالحقائق الوجودية على مسلمة عقديةي: أنه كل ما لم يكن محسوسا فهو في حيز الإمكان إذا تخلف المانع؛ فأين هؤلاء عن قوانين العلم والشرع معا؟!.. إنما يخشى الله من عباده العلماء؛ والجن هم أهل الأرض قبل بني آدم، والبرهان في ذلك رجحاني.
قال أبو عبدالرحمن: إن من يتدبر كلام الله، ويستفرغ الوسع في الاجتهاد: إما أن يخرج بيقين لا شك فيه كالعلم بأن الله ليس كمثله شيىء، وإما أن يخرج برجحان كالعلم بأن الجن في الأرض قبل بني آدم، وإما أن تتكافأ عنده المرجحات؛ فيكون كل قول عنده محتملا كعدم الجزم بما هو لهو الحديث الذي نص الله عليه، ولا يحل للمجتهد أن يلغي الراجح ويأخذ بالمرجوح؛ لأن هذا تحكم.. وتحقق لي بالرجحان أن الجن كانوا خلائف على الأرض حتى أهبط الله آدم عليه السلام خليفة في الأرض، ومقتضى ذلك أن شرائع الجن بعد إهباط آدم عليه السلام تابعة لشرائع الأنبياء من الإنس؛ وذلك بدليل أن الثقلين مخلوقان للعبادة، وأنه لا دليل على أنه ليس في الجن رسلا قبل هبوط آدم عليه السلام، وبدليل أنهم الآن تابعون لشريعة محمد صلى الله عليه وسلم؛ والبرهان على أن الجن أهل الأرض قبل بني آدم أمور سأتناولها في السبتية القادمة إن شاء الله تعالى؛ فإلى لقاإ بإذن الله تعالى، والله المستعان.