رمضان جريدي العنزي
نحن الجيل الذي مشى للمدرسة في السنة أكثر من ثمانية أشهر ذهاباً وإياباً بلا تعب ولا ملل ولا كلل ولا أفٍّ ولا تبرم، نحن الجيل الذي لم يخشَ عصا المدرس، ولم تهزنا نفسياً، ولم ترهبنا، ولا كنا نخشى صلف المدرس ولا جبروته، نحن الجيل الذي ذهب للمدرسة بلا ريال ولا نص ولا ربع ولا حتى سندوتش فارغة، ما كنا نشكو من كثافة المناهج، ولا حجم الحقائب، ولا كثرة الواجبات المنزلية، نحن الجيل الذي اعتمد في الدرس على جهده وذاته، ولم يعتمد على مدرس خصوصي، أو حصص إضافية، أو مساعدة الوالدين، وكنا ننجح بامتياز وتفوق، نحن الجيل الذي يحترم والديه يجلهما ويتعلق بهما ويقدرهما حتى اللا منتهى، ويطأطئ رأسه خجلاً وحياءً وهيبة حينما يتكلمون أو يوجهون أو يعتبون أو يوبخون أو يغضبون، نحن الجيل الذي يحترم رجل الأمن ورجل المرور هيبة وتقديراً لعملهم وللنظام وليس خوفاً أو رهبة أو ذلاً، نحن الجيل الذي يحترم آخر جار في حدود الحي، يسأل عنه ويتفقده، يفرح لفرحه، ويحزن لحزنه، ويشاركه قصعة الطعام، وإناء الشراب، نحن الجيل الذي يلوح للطائرة كلما لاحت في السماء دهشة وتعجبًا وعفوية، نحن الجيل الذي ينام فوق السطح، يسامر الإخوة، ويحاول عد النجوم، ويتفكر في خلق السموات والأرض وما بينهما، نحن الجيل الذي لم يعرف العاملة المنزلية، ولا سائق البيت، نحن الجيل الذي ذاكر على الفانوس، وأكل على ضوء الفانوس، وصلى في المسجد على ضوء الفانوس، نحن الجيل الذي طهى طعامه على (الدافور) أو (الكولة) أو شيء من الحطب، نحن الجيل الذي نام على الحصير، وتوسد مخدة القش، نحن الجيل الذي صام رمضان وتبرد بالشرشف المبلول، حيث لا مكيف ولا مروحة، سوى (مهفة) صغيرة مصنوعة من سعف النخيل، نحن الجيل الذي شرب من صهريج الماء مباشرة بلا فلتر ولا تعقيم ولا عملية ترشيح، ولم نصب بأي أذى أو ميكروب أو جرثومة أو عدوى، نحن الجيل الذي لم يعرف أن للأحذية ماركة، وأن للساعات ماركة، وأن للعطور ماركة، وأن للأقلام ماركة، وأن عود البخور أنواع بعضه رخيص، وبعضه الآخر ثمين، نحن الجيل الذي عندما يريد أن يكوي ثوبه يطويه بتربيعة ثم يضعه تحت فراشه ليرتديه بزهو للمدرسة في صباح اليوم التالي بتجعدات وتعرجات بائنة، نحن الجيل الذي مشى حافياً مسافات طويلة في الحر والقر حتى وإن جرح أو أصابه مسمار أو قطعة زجاجة أو شوكة فهو لا يجزع ولا يبالي، نحن الجيل الذي كان يركض بلا تعب في الوهاد والساحات،ياتنا كانت بسيطة، لكنها جميلة مثل زهرة نرد، الجيران الأنقياء الفائضون بعرابين المودة والحب، كنا جميعاً مثل يمام يحط ويطير ثم ينام مع أول المساء، نتقاسم كل شيء: المرارة والرغد، الزاد والخبز والماء، الضيق والحاجة والرحابة، نتاجى مثل عصافير في حديقة غانية، نسهد بفرح، وننام بفرح، تنهدنا الحياة، ونتنهد بها، قلوبنا بيضاء تشع رحابة، وتنبض بالود، كنا جسداً واحداً روحاً وعينًا وخدًّا، ننام إذا ما جن الليل، ونصحو مع صياح الديكة، تشامخنا عال، واتحادنا باذخ، وقلوبنا غامرة بالشهد، نمضي مثل سحابة، علاقتنا الاجتماعية كانت قوية مثل حديد صلب، أو كإعلان مضيء في أحد الميادين الفارهة، كنا مثل مرايا صافية، وأبواب مفتوحة، ونوافذ مشرعة، كنا مثل عصافير نحط ونطير، نعيد ترتيب الحكايا والقصيد، ونغسل قلوبنا وأرواحنا بالصلاة من ندوب الخطايا والذنوب، نزيح ما قد ران على القلب من تعب، نهدد الخاطر ونطيبه، كل يوم نورق من جديد، مثل نبتة يانعة، تغني للصباح البهيج، نحن الجيل الذي عانى كثيراً، شظف العيش، وشظف السكن، وشظف المواصلات، وشظف الاتصالات، والبعد والنوى، لكننا نحن الجيل الأقوى والأمتن والأصلب، لأن الظروف القاسية التي مررنا لم تحطمنا أو تقيدنا أو تكبلنا بالأسى، ولم تزرع اليأس في نفوسنا، بل نحن الذين حطمناها بعزائمنا القوية، وتطلعاتنا القويمة، ولم نستسلم لها، لقد جيرنا هذه الظروف لصالحنا بعزيمة وجد وعمل وإتقان وتفانٍ ومتابعة، إن على هذا الجيل الذي تهيأت له كل ظروف الحياة وتداعت له وانكبت عليه، أن يتعلم من الجيل الذي سبقه، وأن يجعل من الثبات واليقين والجهد والمثابرة والاعتماد على الذات أهداف له، لكي ينجح ويتفوق ويصل لمبتغاه، أن العمل الجاد هو مفتاح النجاح، وأن الأفعال أبلغ من الأقوال، وأن محطات النجاح بعيدة، ولن يصل إليها الإنسان إلا من خلال السهر والتعب والإرادة القوية، وليتذكر هذا الجيل الذي إذا ما أراد أن يرتقي، أن الجبال الشاهقة لن تنحني له لكي يتسلقها، بل عليه البحث عن أساليب وطرق لكي يصل لقممها.