د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
(1)
** تجيءُ عزلة فئامٍ انطلاقًا لسواهم، وحين نرى من يغشى المجالس والمنتديات والمناسبات فإن في مقابِله من لا يرون فيها أُنسًا ولا وهجًا، وإذا انغلقت ثلة اندلقت ثل، ويضِنُّ أناسٌ بالظهور فيطمع فيه أو يطمح إليه أناس، ويحتال للمال جامعوه ولا يأبه به زاهدوه، وقبلنا اقتنع «ميخائيل نعيمة» أن موت واحد حياة لآخر، وكربة بعضٍ بابُ فرج لغيرهم، وأجيالًا تزاحم أجيالًا كي لا تضيق الأرضُ بساكنين لا يودون المغادرة وقادمين لا سبيل إلى منعهم، وسعد «ديوجين» ببرميله وكسرة خبزته غيرَ آبهٍ بالإسكندرالأكبرالذي وقف أمامه وحجب ضوء الشمس فلم يطلب منه سوى التنحي عن وجهه، وشبيهٌ به ما صنعه «إبراهيم بن الأدهم» ورفقاؤه «إبراهيم بن بشار وأبو يوسف الغاسوني وأبو عبدالله السخاوي» في طريقهم إلى الاسكندرية -وفق حكايتهم المتداولة- وليس معهم سوى كسيرات خبز يابسات، وحين مروا بنهر الأردن اغتسل فيه «ابن الأدهم» وشرب منه وعدَّ ذلك هناءً لا يعدله هناءُ المترفين.
(2)
** يشقى الجميع أو يسعدون دون أن يكونَ للعوامل المادية المباشرة الدورُ الأوحدُ فيما يبلغونه من رضا وسخط، وما يعنينا -هنا- موضوع العزلة المكملة لحكاية «ناسك الشخروب» الذي عرضه صاحبكم «الخميس 20-09-2018م»؛ فلماذا يلجأُ من يعيش تحت الشمس إلى الاحتماء بالظل ضمن وسط صاخبٍ اخترق مساحات الهدوء والسكينة ولم يعد ممكنًا لمن شاء أن يجد مثل كوخ نعيمة وكهفه الجبليين النائيين اللذَّين طلب معهما الانقطاع عن الصحف والإذاعات، وكانتا وسيطي الإلهاء الوحيدين إذ ذاك؛ فتواصل حين أراد، وانقطع كما أراد، وأنَّى لنا مثلُ صنيعه؟!
(3)
** انعزل «أبو العلاء» في سجونه الثلاثة كما أسماها، كما اعتزل «الإمام الغزالي» فصار أقرب للتصوف، وكذا صنع نيتشة فجاء كتابه «هكذا تكلم زرادشت»، ويبدو الجغرافي المصري الأشهر جمال حمدان 1928- 1993م أنموذجًا على الانعزال القاسي حتى مات في شقته محترقًا أو مقتولًا من قبل الموساد كما يشاع ولم يكن قد تجاوز الخامسة والستين، وإذ فارق الناس فلم يفارق التأليف، وهو ما لم نجده عند الأديب السعودي عبدالله عبدالجبار 1919- 2011م الذي عاش عمرًا أطول مكتفيًا في سنيه الأخيرة بالانعزال الاختياري نائيًا عن الحياة بمباهجها والأحياء بضجيجهم إلا قلةً اصطفاهم وتواصلوا معه بطرائقهم.
(4)
** في معظم الحالات تكون لدى المثقف أسبابُه المؤدية إلى اعتزاله أو انعزاله، وربما ينقضها حين يجد أجواءً مختلفة عمَّا عهده تعيده إلى السلوك المعتدل النائي عن الانغلاق كما الاندلاق على حدٍ سواء، والظن أن شيخنا عبدالكريم الجهيمان 1912- 2011 م قد مر بتجربة الانقطاع عن الوسط الثقافي زاهدًا فيه ثم العودة إليه فاعلًا متفاعلًا، ليبقى الحضورُ نقيضَ الاحتضار دون ضرر ولا ضرار.
(5)
** االضدُّ يخلق ضدَّا.