د. محمد بن يحيى الفال
عندما يتعلق الأمر بالاقتصاد السعودي فهناك حقيقتان عنه قد لا يختلف عليهما اثنان سواء كانا من المحللين الاقتصاديين ذوي الخبرة والمعرفة بالشأن الاقتصادي أو من هما من ذوي التجربة من خلال عملهم في عالم التجارة بكافة أصنافها من منقولة كالعقارات أو غير منقولة أو ما يمكن تسميته بالاقتصاد الافتراضي الذي نرى مثاله الأوضح في بورصة سوق الأسهم. الحقيقة الأولى التي تُفرحنا جميعاً هو أن الاقتصاد السعودي هو أحد أقوى اقتصاديات العالم الذي يجعل المملكة عضواً في منتدى مجموعة العشرين التي تضم أهم الدول ذات الاقتصاديات المحورية للعالم التي تشكل أكثر من 90 % من الناتج العالمي، وتُصنف المملكة باستمرار بصورة إيجابية من قبل أشهر ثلاث وكالات تصنيف دولية هي وكالات ستاندر أند بورز، فيتش وموديز، وذلك بغض النظر عن كل الصعوبات التي واجهتها ومنها على سبيل المثال لا الحصر التذبذب المستمر في أسعار النفط والأزمة المالية العالمية لعام 2008 التي قصفت حتى بأعتى الاقتصادات العالمية كما هو حال الاقتصاد الأمريكي، أحد أهم وأضخم اقتصادات العالم الذي استدعى إصلاح الخلل الذي تسببت به الأزمة لإطلاق خطة إنقاذ كبرى وعلى مراحل لإنقاذ الاقتصاد الأمريكي وكلفت الخزينة الأمريكية مئات المليارات من الدولارات.
الحقيقة الثانية وهي أن الاقتصاد في المملكة يعتمد بشكل شبه كامل على المداخيل التي تدخل لخزينة الدولة من مبيعات سلعة النفط التي أصبح الصغير قبل الكبير يعرف بأنها سلعة متذبذبة في قيمتها من سقف أدنى للبرميل بلغ 10 دولارات فقط في منتصف الثمانينات، وسقف أعلى للبرميل وصل إلى 147 دولار في العام 2008، وقد تلي هذا السعر الأزمة المالية العالمية ولتبدأ الأسعار في الانخفاض وبشكل حاد. ولعله ومن نافلة القول بأن خطط التنمية الخمسية التي أطلقت خطتها الأولى عام 1390هـ/ 1970م وضعت في عين الاعتبار التقليل من الاعتماد على النفط كمصدر أساسي لميزانية الدولة. بيد أن خطط التنمية الخمسية الخطة بعد الأخرى وقاربت مُددها الخمسين عاماً عجزت ولحد كبير من تحقيق أحد أهم أهدافها وهو الاعتماد شبه الكلي على سلعة النفط كمصدر دخل للدولة. ومع قول ذلك فإنه لابد من الإشادة بما تم تنفيذه من مشاريع بنية تحتية في كافة مناطق المملكة من خلال الخطط الخمسية الطموحة والرائدة التي نقلت البلاد نقلة حضارية شاملة وفي كافة المجالات وبسرعة فائقة قل نظيرها، ونجحت كذلك وبشكل نسبي في تقليل اعتماد النفط من خلال استغلال النفط في إطلاق صناعة البتروكيماويات التي أثبتت أهمية وحتمية عدم الاعتماد فقط على النفط كمصدر لدخل الدولة. ومع التوسع في المشاريع التنموية والزيادة في السكان والأعداد الكبيرة من الخريجين الباحثين عن فرص عمل، عليه فقد أضحت الآليات التي كان يعمل بها الاقتصاد السعودي في حاجة ماسه لإعادة النظر فيها كونها لم تعد تلبي الكثير من المتطلبات الهادفة لرفاهية ورخاء المواطن. ومن هذه الحقائق وغيرها أطلقت المملكة رؤيتها للعام 2030 التي أطلقها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز ويُشرف على تنفيذها وعلى أدق تفاصيلها صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع. وتهدف الرؤية التي يقع في ثنايا تفاصيلها مهمة إعادة هيكلة الاقتصاد» The Reconstructing of the Economy». مهمة إعادة هيكلة الاقتصاد هي مهمة صعبة ولكن ليست بالمهمة المستحيلة، وفي الغرب يعني مصطلح إعادة هيكلة الاقتصاد هو تحول الاقتصاد من الصناعات إلى الخدمات ونرى مثال ذلك في تجربة مارغريت تاتشر رئيسة وزراء بريطانيا السابقة التي خاضت سجالا مع النقابات العمالية في بريطانيا بسبب برامجها الإصلاحية الهادفة إلى تقليالدور الحكومي في النشاطات التجارية وقامت بتخصيص كثير من قطاعات الدولة من كهرباء ومياه ووسائل مواصلات، وأثبتت الأيام لاحقاً نجاح مشروعها الخاص بالخصخصة وهو الأمر الذي سارت على دربه الكثير من الدول الأوربية عندما تكشف لها النجاح الباهر لبرامج تاتشر في الخصخصة. مهمة إعادة هيكلة عمل اقتصاد المملكة تعتبر العامود الفقري لنجاح رؤية 2030 وتنطلق هذه المهمة من محورين أساسين هما التقليل من الاعتماد على النفط وتحفيز القطاع الخاص لمشاركة فاعلة وحقيقية في النمو الاقتصادي. ويمكن ربط هذين المحورين مع المحاور الثلاث الرئيسة التي أعلن عنها سموه عند إطلاقه لرؤية المملكة 2030 والتي تستند أولاً إلى دور المملكة كعمق للعالم العربي والإسلامي ونرى ما تحقق من هذا المحور من إطلاق لمشروعي رؤى الحرم ورؤى المدينة اللذين يهدفان للوصول بالطاقة الاستيعابية للمدينتين المقدستين إلى 30 مليون معتمر وحاج بحلول العام 2030، وثانياً تحقيق استدامة لاقتصاد المملكة وجعلها قوة استثمارية ونرى نتائج هذا في المشاريع الاستثمارية الضخمة التي تم تدشينها كمشروع القدية ومشروع البحر الأحمر، وثالثاً فموقع المملكة الاستراتيجي سيجعلها محوراً لربط ثلاث قارات هي آسيا وأفريقيا وأوربا ونرى التنفيذ العملي لهذا المحور من خلال مشروع مدينة نيوم، مدينة المستقبل في المملكة. ومن أجل مشاركة فاعلة للقطاع الخاص السعودي فكان لا بد من هيكلة جديدة لآليات عمل القطاع الذي عجزت كل الخطط من تصحيح مساره سواء من خلال برامج السعودة التي أثبتت فشلها أو من الدعم السخي الذي تقدمة الدول للمشاريع الصغيرة والمتوسطة التي لم تثمر لا هي ولا السعودة من مشاركة فاعلة للمواطنين في تطوير اقتصاد بلادهم وذلك بسبب سرطان التستر الذي استشرى في جسم القطاع الخاص في المملكة وكان لا بد من استئصاله بشكل نهائي حتى يستطيع القطاع الصحيح أن ينهض وينمو بشكل صحيح يصب في مصلحة البلاد عوضاً عن حاله جعل أجانب يحصلون على مداخيل عالية من الأعمال التجارية المملوكة في الظاهر لمواطنين وهي تخصهم وبدون رقابة من الدولة مما يعتبر هدراً مالياً هائلاً لموارد الدولة المالية الهادفة لتنفيذ خططها التنموية. لعلنا نشاهد اليوم الكثير من المحلات التي أغلقت وهو أمر قد يبدو في الظاهر سيئاً ولكن ومع الخوض في تفاصيله فهو أمر جاء ليضع حداً لظاهرة التستر التجاري، الظاهرة التي نخرت في اقتصاد المملكة لقود وكان السبب الرئيس في عدم وجود قطاع أعمال سعودي خاص وفاعل إلا من عدد من الشركات الحقيقية التي يمكن لصفحة واحدة أو صفحتين أن تسردها بالأسماء. إن عملية التصحيح هذه للسوق السعودي تزامنت معها إطلاق الكثير من المحفزات لتعزيز النمو الاقتصادي الصحي وبمشاركة حقيقية للقطاع الأعمال الخاص في المملكة، ومن ذلك ما أعلن مؤخراً عن صدور أمر سام باعتماد مبلغ 9 مليارات ريال لبرامج التنمية الريفية التي من أهم مشاريعها تنمية الثروة الحيوانية والسمكية وكذلك فهناك في المملكة أكثر من 29 جهة تمويلية خاصة وحكومية تهدف لدعم أصحاب المشاريع الصغيرة والمتوسطة، ولعل أهم هذه الجهات التي تقدم قروضاً بدون فوائد هما صندوق المئوية وصندوق الموارد البشرية.
إن جهود سمو ولي العهد لإعادة هيكلة الاقتصاد من خلال رؤية المملكة 2030 تحتاج للمساهمة في نجاحها إلى مشاركة مجتمعية مكثفة من خلال كل من الإعلام والتعليم، فعلى الإعلام تقع مهمة بث برامج بشكل دوري من خلال الإذاعة والتلفزيون عن رؤية المملكة 2030 وبرنامج التحول الوطني 2020، ومن خلال هذه البرامج ستكون لكافة شرائح المجتمع وخصوصاً فئة الشباب معرفة واستيعاب للرؤية التي جاءت أصلاً لصالح المجتمع وتنميته، كذلك فإن للتعليم العام في مراحله الأخيرة والتعليم الجامعي دور هام في المشاركة في نجاح رؤية المملكة 2030، ولو تم على سبيل المثال تخصيص حصة أسبوعياً أو شهرياً من حصص النشاط في التعليم العام للتعريف برؤية المملكة 2030 وبرنامج التحول الوطني 2020 فإن ذلك سوف يساعد لحد كبير في تعزيز مشاركة المجتمع في الرؤية الهادفة لصالح البلاد والعباد. إن فطنة سمو الأمير على أهمية إعادة هيكلة الاقتصاد كخطوة أساسية لنجاح التنمية واستدامتها بقدرتها على توفير وظائف باستمرار(Sustainable Development»، أمر أكده مسئولي دولة بحجم الصين التي نجحت في عقود معدودة بأن تكون قوة اقتصادية يحسب لها العالم كل حساب، فهذا هو رئيس مجلس الدولة الصيني الأسبق ون جيا باو وفي تقرير حكومي صيني يؤكد بأن تحويل نمط التنمية وإعادة الهيكلة الاقتصادية تعدان المهام الأكثر إلحاحا للحكومة الصينية ويعتبران المفتاح لحل مشاكل التنمية غير المتزنة وغير المنسقة وغير المستدامة.