الرياض - خاص بـ«الجزيرة»:
حب فطري
يُعرِّف الشيخ سعد بن محمد الفياض المرشد الديني بالأمن العام وخطيب جامع الغدير بالرياض مفهوم الوطنيّة بأنه الإحساس بالارتباط والانتماء لمجتمع أو وطن.. كذلك هو التَعَلُّقُ العاطفي والولاء لأُمةٍ محددة بصفة خاصة واستثنائية عن البلدان الأخرى. والمواطن شخص يحب بلاده، وهو حب فطري يدعم سلطتها، ويعرف حق ولاتها، ويصون مصالحها، ويحافظ على مكتسباتها، ويحرص على أمنها ووحدتها.. ويتضح ذلك جلياً من خلال مجموعة مفاهيم ومدارك وثيقة الصلة بتحقيق جوانب الوطنية الحقة، منها: الاعتصام بكتاب الله، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وفق فهم سلف الأمة {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ}. وعن النعمان بن بشير - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى». وترسيخ الأمن بمفهومه الشامل من خلال المحافظة على الضروريات الخمس (الدين والعقل والنفس والعرض والمال). وجاءت الشريعة ببيان أهمية هذا الجانب، ووسائل ترسيخه، والنهي عن كل ما يؤثر فيه أو يضعف جانبه، وهو أساس دعوة الأنبياء والمنهج الذي أُرسلوا من أجله {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الْأَصْنَامَ}، {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ}. وكذلك غرس القيم والمبادئ الإسلامية التي تعزز روح الانتماء والولاء، وترسيخ مفهوم الفكر الوسطي المعتدل الذي تميّز به الدين الإسلامي الحنيف {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}، الذي لا غلو فيه ولا جفاء، ولا إفراط ولا تفريط. وكذلك ترسيخ مبدأ الإحساس بالمسؤولية تجاه أمن الوطن، والحفاظ على مقدراته ومكتسباته، كما أن الإسلام نهى عن كل ما يؤثر في هذا الأمن. ونهى عن الإرجاف والإشاعة وبث كل ما فيه سبب لزعزعة الأمن أو إضعافه {وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ}. فقد نهى عن الغيبة والنميمة والكذب والبهتان وسوء الظن والقيل والقال، وأمر بالخلق الحسن والرفق واللين، والرحمة والمودة، والإيثار والتعاون والبر والإحسان {وَقُوُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً}، {وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}.. وأمر بكل ما فيه سبب لتحقيق الأخوة الإيمانية بكل صورها {إنَّما المؤمِنُوْنَ إِخْوَة..}. والأسرة التي هي لبنة من لبنات المجتمع لا شك أن لها الدور الرئيس في تربية جيل يقوم على الإيمان بالله ورسوله، والسمع والطاعة لولاة أمرنا.
الوحدة الوطنية
ويؤكد د. مقبل بن مريشيد الرفيعي الحربي الأستاذ المشارك بكلية الحديث الشريف والدراسات الإسلامية بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة إن الوحدة الوطنية ضرورة يتحقق فيها الأمن للمجتمع وأفراده، وتزدهر التنمية في الوطن الذي أفراده كالبنيان المرصوص الذي يشد بعضه بعضًا.. وأعظم مقوماتها الإسلام الذي بعث الله به نبيه محمدًا - صلى الله عليه وسلم - عقيدة ومنهجًا. وقد أعزنا الله بهذا الدين، وتحققت وحدة بلادنا المملكة العربية السعودية به منذ مؤسسها الملك عبدالعزيز - رحمه الله - حتى عصرها الحاضر بقيادة خادم الحرمين الملك سلمان - حفظه الله -. ويمكن تحقيق الوحدة الوطنية بأحد أمرين - في تصوري القاصر - أولهما: القناعة بمفهوم الوحدة الوطنية، وهي تنطلق من منطلقات إسلامية شرعية، وكون كل فرد من أفراد المجتمع يعرف ما له وما عليه، ومسؤوليته «كلكم راعٍ، وكلكم مسؤول عن رعيته»؛ لذا حرم الإسلام الجرائم بكل أنواعها، والتعدي على الآخرين. والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده. قال تعالى: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} (58) سورة النساء. والآيات والأحاديث النبوية كثيرة في هذا الباب.. حتى أن الأعمال القلبية للعبد فإنه في بعضها يأثم وإن لم يظهر ذلك، كالحسد وهو آكل للحسنات كما تأكل النار الحطب.. وكيف إذا كان مع الحسد كيدًا ومكرًا؟! وفي بعض الأعمال القلبية ما يؤجَر عليه ولا يكون إيمانه كاملاً إلا به؛ قال عليه الصلاة والسلام: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه».
الأمر الثاني: الالتزام بالنظم والقوانين، والحفاظ عليها، وهي من المصالح المرسلة لولي الأمر؛ لذا أوجب الله - عزّ وجلّ - طاعته في المعروف، وهيبته هيبة للوطن. والله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.
جمع الشتات
ويقول الدكتور عبدالله بن محمد المطرود عضو الدعوة والإرشاد إن الوطنية اجتماع متفرق، وتقوية ضعيف، ورفعة شأن.. وهي ضرورة مكانية وزمانية؛ لأن الإنسان مدني بطبعه، يألف الاجتماع، ويسعى للتعاون. وقد ذكر القرآن أن الوطن يجمع الشتات؛ فيكون بعد ذلك قوة ووحدة وولاء.. فقال: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ}، وقال: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ}، {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ}. هذه الآية فيها أناس خرجوا من وطن، وفيها بيان دور الدين في جمع الناس، وفيها دعوة للمساواة لهؤلاء الساكنين في مكان واحد، وليعملوا على تحسين حياتهم وتأمينها. ولا يمكن ذلك إلا عندما يكون الوطن للجميع، والبعد عن التعصب والتعنصر ومسميات التفتت، كالأقليات والطائفية والأحزاب المؤدية للتفرق.
ونتذكر قول الله: {وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ}. الدار هي الوطن المدينة التي تكون فيها أعظم تجمع عاش الوحدة الوطنية بكل معالمها وحضارتها العلمية والدينية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية، وانصهرت القبائل والشعوب والجماعات؛ فأصبحت مضرب المثل في التعايش السلمي وازدهار الحياة اليومية، وكان الولاء لها كونها الحاضنة للتعاون وسير الحياة المطمئنة والمصير المشترك للشعب بعيدًا عن الأحقاد والضغينة والطائفية والأنانية؛ فهابها الأعداء، وأثبتت وجودها كقوة لا تقهر.. وهذا ما حرص عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - في وثيقته المعروفة لأهل المدينة، بمن فيهم اليهود؛ فاستمرت الحياة، وازدهرت الحضارة؛ لأنه كان هناك من يغذي الوحدة والتعاون، وما زالت كذلك حتى وشى من أراد هدم تلك الوحدة؛ وهذا دليل على أن أبناء الوطن الواحد إذا أرادوا الاستمرار في رغد العيش والأمن والسلم عليهم أن يحافظوا على وحدتهم، ويحرسوا مصيرهم، ويحرصوا على أن يعيشوا مع بعضهم، ويترفعوا عن القبلية والعنصرية البغيضة، وعليهم إسكات الأصوات النشاز، والوقوف أمام العدو، وإبطال الإشاعات المغرضة. مشيراً إلى أن وحدة الوطن هي وحدة الشعب {وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}. وقال تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ}. إنها قمة المحافظة على كيان ووحدة الوطن. وإننا في وطننا المملكة العربية السعودية مدعوون من علماء ومعلمين ودعاة وخطباء ومفكرين وأدباء وإعلاميين أفراداً وجماعات للحفاظ على وحدتنا ولحمتنا الوطنية، وغرس الولاء والانتماء لهذا الوطن جيلاً بعد جيل، وأنه لا بد من الدفاع عنه وعن قيمه ومبادئه، ونواجه التحديات والطائفية الموصلة للتشرذم والحيرة المدمرة بكل اقتدار.
تحقيق الوحدة
ويؤكد د. نهار بن عبد الرحمن العتيبي عضو هيئة التدريس بجامعة شقراء أن الوحدة الوطنية هي من الأمور المهمة التي تجمع المواطنين تحت راية واحدة، هي راية الإسلام؛ فكل مواطن في هذا البلد ينتمي إلى هذا الكيان (المملكة العربية السعودية) التي شرفها الله تعالى بتطبيق شريعة الإسلام الذي هو الدين الحق كما قال الله جل شأنه في محكم كتابه: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ}. وراية الإسلام لا تزال خفاقة بفضل الله بالتوحيد (لا إله إلا الله محمد رسول الله). ويسمع الناس ويطيعون في هذا البلد استجابة لأمر الله تعالى الذي أمرهم بطاعة ولاة أمرهم فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ}. وبطاعة ولاة الأمور وتطبيق وتحقيق الوحدة في هذا الوطن يتحقق الأمن الذي هو من أجلّ النِّعم؛ فيخيب كل عدو يحاول النيل من هذا الوطن، ويعاقب كل مجرم يخل بأمن الوطن، ويكون لغيره عبرة؛ فيأمن الناس على دينهم وأنفسهم وأعراضهم وأموالهم؛ ولذلك نجد أن النصوص في كتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - كثيرة جدًّا، وجميعها تحث على الاجتماع، وتحذر من التفرق، وتنهى عن العصبية للون أو القبيلة أو العرق أو المدينة، قال الله تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ}.
وقد ضمنت لهم العصمة من الخطأ عند اتفاقهم، كما وردت بذلك الأحاديث المتعددة أيضاً، وخيف عليهم الافتراق، والاختلاف، وقد وقع ذلك في هذه الأمة؛ فافترقوا على ثلاث وسبعين فرقة، منها فرقة ناجية إلى الجنة ومسلمة من عذاب النار، وهم الذين على ما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، ونهى الله سبحانه عن التنازع والاختلاف فقال سبحانه: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}.
ولذلك فإن الوحدة الوطنية تتحقق فيها العديد من المنافع المهمة، وهي مطلب شرعي، تتحقق به المصالح، وتندفع به المفاسد. وقد جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه عندما قدم المدينة، وجعلهم في مجتمع واحد، وآخى بين المهاجرين والأنصار، فتحققت الوحدة، وقويت الدولة، وأصبح جميع الصحابة وساكنو المدينة من غيرهم يأتمرون بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويرضون بحكمه، ويلتزمون بما نهاهم عنه عليه الصلاة والسلام. وهذا النموذج الرائع للمجتمع المدني يدعو كل المسلمين إلى الاقتداء به؛ فإن الخير كل الخير فيما فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصحابته الكرام - رضي الله عنهم وأرضاهم -.
الدعاة والخطباء
ويبيِّن د. سليمان بن صالح القرعاوي أستاذ التفسير وعلوم القرآن الكريم بجامعة الملك فيصل بالأحساء أن الوحدة الوطنية هي مناط الحياة في المجتمع المسلم المتماسك؛ فالمسلم ينبغي عليه أن يدرك حجم العداوة والبغضاء التي يفرزها من يكره البلد المسلم الذي يطبق شعائر الإسلام وأحكامه. وفي كتاب الله (القرآن الكريم) دليل على أهمية الوحدة الوطنية، وأثرها على الناشئة في كونهم الدرع الواقية ضد أي هجمة توجَّه للمجتمع السعودي المسلم. والله تعالى قيّض لهذا البلد من يذود عن حياضه، وذلك بالتمسك بالدين، والنهل من العلوم. والمعلم والأستاذ الجامعي والموظف والطالب مطلوب منهم أن ينظروا بعين البصيرة لتلك الحملات العدائية التي من شأنها بث الفُرقة، وخلق الحقد والكراهية من خلال الأبواق المستأجرة التي ما فتئت تكتب وتحرض ضد هذه الدولة الرشيدة؛ لذا عن طريق الحوار والنقاش تنجلي الإشكالات. كما يتوجب على الدعاة وخطباء المنابر أن يولوا هذا الموضوع جلّ اهتمامهم. وهذا الأمر يعتبر سدادًا لبعض الدين الذي يدين به المسلم لهذا الوطن.
الوحدة والترابط
ويقول الشيخ سعود بن زيد المانع مدير المعهد العلمي بالدلم ورئيس جمعية تحفيظ القرآن الكريم: من فضل الله تعالى الاجتماع والوحدة بين المسلمين على دين واحد، وفي بلد واحد، كما قال الله تعالى ممتنًّا بذلك على عباده {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}. وجاءت أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك كقوله - صلى الله عليه وسلم -: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد؛ إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى». رواه مسلم. وكقوله - صلى الله عليه وسلم -: «المسلم أخو المسلم...». رواه البخاري. ويقول - صلى الله عليه وسلم -: «الدين النصيحة». قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: «لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم». رواه مسلم.
فالوحدة والترابط أمر واجب على كل مسلم في بلده الذي يقيم فيه للتعاون مع مجتمعه وولاة أمره لتطبيق شرع الله تعالى على الأفراد والمجتمع والدولة عملاً بقول الله تعالى: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ}. والأمور التي تعين على تطبيق هذه الوحدة الوطنية بين سائر أفراد المجتمع تكون بالآتي: التعاون والتلاحم بين أفراد المجتمع المسلم في بلدهم لتحقيق عبادة الله، وتطبيق شرعه كما أمر، كما ثبت في القرآن، وصح في السنة النبوية على فهم السلف الصالح رضوان الله عليهم، كما قال تعالى {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ}. وكذلك التعاون مع ولاة الأمر في بلده بالنصح والسمع والطاعة لهم بالمعروف، والحرص على مقومات البلد ومكتسباته وأمنه، والدفاع عنه لو تطلب ذلك. ومن أهم فوائد هذه الوحدة والتلاحم: الإعانة على تطبيق شرع الله تعالى، والترابط القوي بين الأفراد والأسر والمجتمعات والمواطنين جميعاً، وتماسك الدولة وقوتها وهيبتها في الداخل والخارج، والتمتع والتنعم بالأمن والاستقرار ورغد العيش، وقوة الاقتصاد وانتشار العلم والثقافة وبروز العقول المميزة في كل المجالات والعلوم التي تنفع الإسلام والمسلمين بما يعود بالنفع على الوطن.
التوحيد والوحدة
ويؤكد الشيخ يوسف بن عبد العزيز الطريفي أستاذ العلوم الشرعية بالمعهد العلمي بحائل أن الوحدة الوطنية في بلادنا (المملكة العربية السعودية) موجودة منذ تأسيسها في عهد الإمام محمد بن سعود - رحمه الله تعالى -؛ فقد قامت على التوحيد والوحدة بين أهلها، لا فرق بين فقير ولا غني ولا صاحب جاه أو عامة الناس.. وقد أكد ذلك مؤسس الدولة السعودية الثالثة الملك عبدالعزيز آل سعود - رحمه الله تعالى - في أفعاله وأقواله ودستور البلاد وأنظمته.. فمن أقواله رحمه الله تعالى: (لستُ ممن يفخرون بألقاب الـمُلك ولا بأُبَّهته، ولستُ ممن يُولَعون بالألقاب ويركضون وراءها؛ وإنما نحن نفتخر بالدين الإسلامي، ونفتخر بأننا دعاة مبشِّرون لتوحيد الله ونشر دينه، وأَحَبُّ الأعمال إلينا هو العمل في هذا السبيل، بأننا نلنا فخرًا يزيد عن فخر الـمُلك وأبهته. أجل، نحن دعاة إلى التمسك بالدين الخالي من كل بدعة). ونجد جميع ولاة الأمر في هذه البلاد المباركة سابقهم ولاحقهم يشددون على التوحيد والوحدة بين المواطنين تحت راية الإسلام في ظل كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
وقد أكد ذلك ملك الحزم والعزم خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود - حفظه الله ورعاه - في عدد من قراراته وأفعاله وأقواله، ومصداق ذلك كله قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ} (103) سورة آل عمران. والفرقة والاختلاف والتنازع سبب لهزيمة الأمة وزوالها كما قال سبحانه: {وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (46) سورة الأنفال، وقوله صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه الإمام البخاري في صحيحه بسنده عن النعمان بن بشير قال النبي: «ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد؛ إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى»، وغيرها من نصوص الشرع المطهر. فواجبنا الاجتماع والالتفاف مع ولاة أمرنا.
الراعي والرعية
ويشير الشيخ الحارث بن سراج الزهراني إمام وخطيب جامع الأميرة الجوهرة بنت محمد بن سعود بالرياض إلى أن قوّة المجتمعات تكمن في تماسكها، وترابط أنسجتها؛ ولذلك جاء الدين الحنيف بتقوية هذه الروابط الاجتماعية؛ فالأسرة الصغيرة يربط أفرادها قيمٌ عالية وحقوقٌ شريفة، والجيران لهم من الحقوق ما لا يخفى، والخلطاء كذلك، والمتأمل يرى أن من أوسع العلاقات في المجتمع المسلم وأكثرها حساسية علاقة الراعي بالرعية؛ لذلك اعتنى الدين الحنيف ببيان أطر هذه العلاقة، وواجبات وحقوق كل طرف. ولا يخفى على عاقل ما يترتب على التوتر في هذه العلاقة من آثار خطيرة على المجتمعات؛ فالتنمية تتعطل، والأمن يختل، وأمواج القلاقل والإحن تتلاطم. كما أن اقتصاد الدولة في مثل هذه العلاقة المتوترة يتأثر تأثراً بالغاً. فالاقتصاد لا ينمو إلا في ظل الاستقرار.. وقد جاءت النصوص الشرعية متكاثرة متضافرة في الحث على السمع والطاعة ولزوم الجماعة، فالله تعالى قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (59) سورة النساء. والرسول - صلى الله عليه وسلم - من رحمته لأمته أكّد وأعاد في الوصية بطاعة الولاة. فمن ذلك ما جاء في الصحيح عنه - صلى الله عليه وسلم -: «اسمعوا وأطيعوا وإن تأمر عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة، فاسمعوا وأطيعوا». وقال - صلى الله عليه وسلم -: «على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره، فإن أُمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة». وقال الصحابي الجليل عبادة بن الصامت - رضي الله عنه -: «بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا، وألا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم فيه من الله برهان». ولخطورة الأمر وشدته قال صلى الله عليه وسلم: «من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتةً جاهلية». والأحاديث كثيرة جداً؛ وهو ما يدل على عناية الشرع بهذا الباب؛ وذلك لما له من آثار جسام على الأمة بشكل عام.
وإن الدين الإسلامي يُعنى للغاية بتكثير المصالح، وتقليل المفاسد، ويقدم مصلحة الجماعة على مصلحة الفرد؛ فليس من العقل أن يبيع المرء وطناً لأجل مطالب يطالب بها. وكم فقد مجتمع حقهم كله لما طالبوا ببعض حقوقهم؛ فالأمن إذا فُقد فُقدت معه الحياة الكريمة، بل لم يبق للعبادة طمأنينة، ولا للمال قدر، ولا للعرض صون وحفظ.
المسؤولية العظيمة
ويشدد الشيخ حمد بن إبراهيم الحريقي عضو الدعوة والإرشاد في القصيم على أن تحقيق ذلك يكون من قِبل الدعاة إلى الله في تأليف الناس، وجمعهم على الخير والترابط فيما بين الراعي والرعية، ويكون ذلك أيضاً بدعوة الناس للتعاون على البر والتقوى وعمارة الأرض في النافع المفيد، ومحاولة جمع الناس على أصول الإسلام، وإن كان ثمة خلافات في الفروع. ولا شك في أن أمة الإسلام لا تنتصر وهي متفرقة متشرذمة بل لا تنتصر إلا باجتماعها ووحدتها والالتفاف خلف قيادتها السياسية والشرعية. وهذا واضح لمن تأمل التأريخ، ونظر في المراحل التي مرت بها أمة الإسلام؛ إذ لم يكتب لها النصر وهي متفرقة، وكتب الله لها العز والغلبة والنصر في حال اجتماعها. والدور كبير، والمسؤولية عظيمة على الدعاة؛ إذ الناس يسمعون لتوجيههم ونصحهم.. فيا سعد من كان مفتاحاً للخير محباً للجميع داعياً دائماً إلى التآلف والاجتماع والتعاون، محققاً في ذلك قول الله تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ}. فاجتماع المسلمين نعمة عظيمة، ينبغي للدعاة أن يستثمروها في تحقيق العبودية لله، وتعبيد الناس لرب العالمين، والتمسك بالكتاب والسنة.
استشعار النعمة
ويؤكد الشيخ زياد بن عبدالكريم المشيقح مدير مكتب الإرشاد والتوجيه بالحرس الوطني بالقصيم أن للوحدة الوطنية دورًا كبيرًا بعد توفيق الله تعالى في الحفاظ على كيان هذا الوطن الغالي؛ لأن وحدتنا في المملكة العربية السعودية مبنية - ولله الحمد - على الكتاب والسنة امتثالاً لقول الله تعالى {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ}. فعلينا أن نستشعر هذه النعمة، ونتحدث بها، ونغرس في مجتمعنا مفهوم الوحدة الوطنية، وبيان أهدافها وثمراتها، ونعمل على تربية أجيالنا بحب الوطن، والحفاظ على وحدته بالقدوة الصالحة والتوجيه المباشر؛ فالأب في منزله قدوة، والمعلم قدوة، وإمام المسجد ورجل الأمن والطبيب كل هؤلاء يمثلون قدوات وعلى قدر من الأمانة والتفاني في تحقيق الوحدة الوطنية ولزوم الجماعة والاعتصام بالكتاب والسنة، والابتعاد عن مَواطن الفتن، وعن كل ما يهدد اللحمة الوطنية، كالانتماء للأحزاب والفرق والجماعات واتباع الشبهات والأهواء والعصبية القبلية والنظرة المناطقية، والتأكيد أنه لا مساومة على مكانة وطننا والمساس بوحدتنا والتفافنا حول ولاة أمورنا؛ لتستمر بلادنا في أمن واستقرار ورخاء وبناء وتقدم ونماء.. أدام الله علينا عقيدتنا وأمننا وولاة أمرنا.