د. محمد بن يحيى الفال
نحتفل بذكرى توحيد الوطن على يد الملك الموحد عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود. وحق لنا أن نحتفل بمثل هذا الحدث الذي غيَّر وجه التاريخ بمولد دولة وأمة، أصبحت لها مكانتها وشأنها بين أمم العالم في فترة وجيزة، وبقفزات تنموية تعتبر معجزات عندما يتعلق الأمر ببناء الدول الحديثة. في هذه المناسبة العزيزة التي وحّدت قلوبنا ومشاعرنا نحو وطن ليس ككل الأوطان نفتخر جميعًا بكرم المولى - جلت قدرته - بأن يكون مهبطًا للوحي الأخير للبشرية عامة، وعلى يد أفضل خلقه ورسله، حبيبنا وقدوتنا ورسولنا ونبينا عليه أفضل الصلوات والتسليم. وطن كرمه الله بأن يكون قِبلة للمسلمين في كل بقاع الأرض، وأينما حلَّ المسلم على وجه هذه البسيطة.
تتزامن الذكرى الثامنة والثمانون لتوحيد البلاد بثلاثة أحداث مهمة، هي -حسب الترتيب الزمني لوقوعها -: نجاح باهر لموسم حج نموذجي، ودخول العام الدراسي الجديد، وبدء السنة الهجرية الجديدة. ونستذكر من هذه الأحداث التي تتزامن مع مناسبة توحيد بلادنا مقولات خالدة للملك المؤسس حولها، هي بمنزلة حقائق واستراتيجيات شاملة، وثوابت وبوصلة توجه نهضة الأمة نحو تحقيق أحلامها كما أراد لها الملك المؤسس.
الحقيقة الأولى التي شدد عليها الملك المؤسس هي أن خدمة الحجاج وضيوف الرحمن شرف تعتز به المملكة قيادة وشعبًا، وهي مما يعتز به ملوك بلادنا على الدوام، وأكدها خادم الرحمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز في كلمته لقادة القطاعات العسكرية كافة التي أسهمت وشاركت في نجاح باهر لموسم الحج بقوله: «شرَّف الله سبحانه هذه البلاد المباركة بخدمة ضيوف الرحمن من الحجاج والزوار، وتوفير أسباب أداء نسكهم بطمأنينة ويسر. ولم يزل بذل الغالي والنفيس في سبيل خدمتهم والسهر على راحتهم مصدر فخر لبلادنا منذ تأسيسها على يد المؤسس الملك عبدالعزيز -رحمه الله-، وستواصل أداء هذا الواجب بعون الله وتوفيقه».
الحقيقة الثانية المتزامنة مع حلول العام الدراسي الجديد تعيد بنا الذاكرة للوراء للنهل من أقوال الملك الموحد حول أهمية التعليم في بناء الأمم، منها قوله: «إن التعليم في المملكة هو الركيزة الأساسية التي نحقق بها تطلعات شعبنا نحو التقدم والرقي في العلوم والمعارف». وخلال العقود التي لم تبلغ التسع بعد منذ توحيده المملكة، وعطفًا على توجيهاته السديدة وبعيدة النظر للاهتمام بالتعليم لبناء البلاد وتطويرها، نجد الآن في المملكة نهضة تعليمية، يندر مثلها بأكثر من 42 جامعة حكومية وأهلية، وعشرات الكليات الحكومية، منها المدنية، ومنها العسكرية، وعشرات أخرى من الكليات الأهلية الخاصة، وبأكثر من 27 ألف مدرسة حكومية للصفوف الابتدائية والمتوسطة والثانوية، وبميزانية للتعليم بلغت 192 مليار ريال للعام المنصرم.
الحقيقة الثالثة التي أكدها الملك المؤسس، والمتزامنة مع دخول السنة الهجرية الجديدة، هي تأكيده أن التمسك بثوابت الدين هو أمر لا يمنع الأمة من التطور واللحاق بركاب الأمم الحديثة، ويمكن تحقيقه بدون التخلي عن الثوابت الدينية الأساسية التي جاءت بها الرسالة المحمدية. ونرى تأكيده هذا المبدأ الخاص بالتمسك بثوابت الدين بقوله: «إن مَن يعتقد أن الكتاب والسنة عائق للتطور أو التقدم لم يقرأ القرآن أو لم يفهم القرآن». فهذا هو المبدأ الذي سار عليه أولاده وأحفاده من بعده، وتمسكوا به لمعرفتهم اليقينية، وكما هو حال كل من ينتسب لهذه الأرض المباركة. إن التقدم والازدهار الملتزم بثوابت الدين الذي تعيش بلادنا حقبه من أهم حقبه عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود وولي عهده صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان، وهو تقدُّم جاء لوضع البلاد نحو مسار جديد، يهدف أساسًا إلى تقليل اعتمادها على مداخيل البترول متذبذبة الأسعار، مع تصحيح كامل لآليات عمل السوق السعودي، وتحويله من سوق قائم على التستر واستفادة الوافدين بجُل مداخيله إلى سوق حقيقي، يستفيد منه المواطنون، ويكونون شركاء حقيقيين في تنمية البلاد.
جاءت رؤية 2030 التي يتابع سمو ولي العهد أدق تفاصيلها لتضع النقاط على الحروف، وتعيد هيكلة الاقتصاد السعودي من جديد، ونقله من اقتصاد مستهلك فقط إلى اقتصاد منتج كذلك، وبتنمية مستدامة قادرة على استحداث وظائف باستمرار، وذلك من خلال محورَين مهمَّين، هما الصناعات والخدمات.
ونرى اتجاه الصناعات يركز على ثلاث صناعات أساسية، تمتاز بأنها ذات ربحية مرتفعة، وإن كانت تحتاج إلى استثمارات ضخمة لضخها فيها، وخصوصًا في بداية إنشائها. وهذه الصناعات هي: صناعة الأسلحة، صناعة البتروكيماويات وصناعة البرمجيات.
في محور الخدمات نجد أنه يعتمد أساسًا على الترفيه والحج والعمرة. وفي قطاع الترفيه هناك مشروعان أساسيان، هما مشروع البحر الأحمر الذي يهدف لتطوير أكثر من 50 جزيرة، تقع بين كل من النطاق السكاني لمدينتَي الوجه وأملج في الساحل الغربي للمملكة الممتد لأكثر من 2400 كيلومتر. والمشروع الآخر هو مشروع القدية، وهو مشروع ضخم بالقرب من الرياض، وسيكون مَعلمًا من معالمها، وبأنشطة رياضية وثقافية وترفيهية. ومع هذه المشاريع الترفيهية الضخمة هناك مشروع مدينة نيوم الذي يُعتبر مشروع مستقبل المملكة بصناعات متطورة في المجالات كافة. وتشترك دولتان عربيتان في الاستفادة من المشروع، هما كل من المملكة الأردنية الهاشمية وجمهورية مصر العربية. في قطاع الحج والعمرة هناك خطط ومشاريع لإعادة آليات العمل فيهما من خلال تطوير شامل لكل الخدمات المتعلقة بهما. وقد تم في هذا الخصوص بدءًا من الحج المنصرم البدء في تطبيق خدمة «طريق مكة»، وهي الخدمة التي تسمح للحجاج القادمين للمملكة بإكمال إجراءات سفرهم كافة لأداء فريضة الحج من نقطة سفرهم في بلدهم، وكانت ماليزيا الدولة الأولى التي تم تطبيق هذه الخدمة لحجاجها بها، وأثبتت نجاحها التام. كذلك فإنه سوف يتم تدشين رحلات قطار الحرمين الواصل بين كل من مكة المكرمة والمدينة المنورة مرورًا بمدينة جدة ومطارها الدولي (مطار الملك عبدالعزيز).
رؤية المملكة 2030 فطنت إلى أهمية تطوير قطاع الحج والعمرة، وذلك ليس فقط من خلال تطوير وتحسين الخدمات المقدمة للحجاج والمعتمرين، بل تهدف كذلك إلى زيادة الطاقة الاستيعابية لهم التي تسعى الرؤية للوصول بها إلى 30 مليون معتمر وحاج سنويًّا. وعليه، وللوصول إلى هذا الرقم، فقد تم إطلاق كل من مشروعَي رؤى الحرم ورؤى المدينة لبناء الوحدات السكنية في كل من مكة المكرمة والمدينة المنورة، ولجعل رقم الـ30 مليون معتمر وحاج حقيقة واقعة بحلول العام 2030.
منجزاتنا في كل مناحي مسيرة التقدم والازدهار تحتاج إلى رجال يدافعون عنها. ولقد قيّض المولى - جلت قدرته - لبلادنا قيادة رشيدة، تثمن التضحيات الجليلة التي يقدمها منسوبو القطاعات العسكرية كافة في الدفاع عن ثرى بلادنا الطاهر، قِبلة المسلمين ومهبط الوحي. وقد شدَّد على تقدير هذه التضحيات خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز في كلمته لرؤساء القطاعات العسكرية في موسم الحج الذي انقضى للتو بتأكيده أننا نتذكر في يوم عيد الأضحى المبارك كل الشهداء والأبطال الذين قدموا أرواحهم في سبيل دينهم وحماية وطنهم. شهداؤنا الذين قضوا في ساحات العزة والكرامة ستبقى تضحياتهم محفورة في عقولنا ومشاعرنا داعين لهم بالرحمة والغفران، ومؤكدين أن وطنهم لن ينساهم أو ينسى أسرهم، وأن الدولة لم ولن تبخل بالدعم المعنوي والمادي لهم.
لقد شاهدنا صورًا في غاية التعبير عن صدق المشاعر التي تكنها القيادة لرجالنا الأبطال الذين يخوضون معركة إعادة الشرعية لليمن الشقيق، وذلك بصورة لصاحب السمو الملكي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز وهو يطبع قبلة تقدير على جبين أحد جنودنا المصابين في الحد الجنوبي، وقبلة أخرى على جبين ابن أحد شهدائنا الذين استُشهدوا في ساحات العزة والكرامة دفاعًا عن ثرى الوطن الغالي.
إن الدفاع عن ثرى الوطن لم يكن الساحة الوحيدة التي خاض فيها جنودنا الأبطال معارك الشرف؛ فقد سبق أن جاهدوا كذلك في الدفاع عن حقوق أشقائنا العرب المشروعة، واستُشهد العديد منهم على الجبهات الأردنية والسورية والمصرية. كما كانت بلادنا سباقة في نصرة الحق في ساحات الشرف والكرامة، كذلك فهي من الدول التي تؤمن بحتمية الأمن والاستقرار وأهميتهما للسلام الدولي.
ومع قرب ذكرى يوم توحيد الوطن نرى قيادة بلادنا تجمع في مدينة جدة في قمة سلام تاريخية قيادتَي كل من جمهورية إثيوبيا وجمهورية إريتريا، الدولتين اللتين خاضتا حربًا ضروسًا، استمرت عقودًا، أهلكت الآلاف من الضحايا، وعددًا هائلاً من النازحين والمتضررين منهما.
في ذكرى يوم توحيد الوطن نستذكر قيادة وشعبًا تضحيات كل من قدم نفسه فداءً للوطن، ونستلهم الدروس من تضحياتهم للمضي قُدمًا في مسيرة نهضتنا وبناء وطننا نحو المزيد من التقدم والازدهار، وفي المجالات كافة، وندرك أن الله - جلت قدرته - منحنا وطنًا ليس ككل الأوطان؛ لما يمثله من مكانة في قلوب المسلمين أينما كانوا.