عبده الأسمري
عندما يتوارد إلى الذهن مفهوم التشدد فإن التفاصيل تتمحور حول الضيق والتطرف والحصار والجمود والتجمد، وغيرها من المفردات التي تجعل هذا المفهوم مقترنًا بالسوء والسلبية والفشل.
ولو دققنا في التشدُّد فليس الأمر متعلقًا بالدين أو العقيدة، ولكنه يتجاوز ذلك إلى الحياة والمستقبل والتربية والنظام والعيش والسلوك.
التشدد في الحياة صنع لدينا أزمة مع تطوير الذات، وأنشأ أجيالاً متصلبة متعنتة، ترى أن الحوار نقطة حتمية للتمسك بالرأي، وتنظر إلى الاختلاف كمنطلق أساسي للعداء؛ وهو ما أوجد بيننا دوائر ضيقة من التفكير والتدبير حيال أي أمر نتشارك فيه من خلال تقاطعاتنا مع الآخرين في التعاملات والمعاملات.
أثار لدينا التشدد في زمان مضى أزمة حقيقية في التعاطي مع الآخرين، وأدخل العديد من الخارجين من مسارحه «الهزلية» ومداراته «الهزيلة» في دائرة التقوقع على الذات، والوهم الذاتي، والتوهم النفسي، والتراشق مع الغير، والعزة بالإثم، والاعتزاز بالباطل، والإصرار على الاختلاف للاعتراف بقيمة الذات المتمسكة بالرأي العصية على الرأي الآخر.
أدى إسراف الأسر في حصار البراءة الطفولية والكفاءة الشبابية بمعاول التشدد ونيران الذاتية المفرطة وسهام الرقابة المفجعة إلى نشوء «الأجيال المتمردة» التي حوَّلت «الكبت» إلى «سلوكيات وأفعال وأساليب»، تجاوزت حدود المنطق، وقفزت من فوق أسوار الحرية بسبب التشدد الذي كان عنوانًا رسم كل معاني الخذلان والنكران داخل حدود الأسرة الواحدة، وكانت النتيجة مخرجات تعاني «الفشل الحتمي».
في مستوى النظام يصرُّ بعض المسؤولين وأصحاب القرار على «التجمد في الصلاحيات» و»الصد عن المساعدة» بحجة النظام، في حين أن الحلول ممكنة متى ما حُوِّل التشدد النظامي إلى تمدد موضوعي، يسهم في إذابة جليد النصوص الصماء التي من الممكن أن تبلور إما بالتطوير أو الابتكار؛ لتوائم مسيرة الإنسان الباحث عن مسارات متجددة من المساعدة والمساندة في إطار الأسس التي تكفل قاعدة «لا ضرر ولا ضرار».
بدَّد التشدد الكثير من المرونة المجتمعية؛ فنقص الوعي بالصلح والعفو والتسامح واللين وسيطرة التصلب «الإنساني» على مفاهيم البشر في التعامل مع الخلافات، وفي التعاطي مع الاختلافات، كوَّنت لدينا سلبيات مجتمعية غارقة في الرجعية، تعارض سماحة ديننا في الرفق الذي أبلغنا به نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - بأنه ما كان في شيء إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه.
أزاح التشدد معالم البسمة ومعاني الابتسامة، وغادرت «البهجة» وجوه المتشددين «إنسانيًّا»؛ فطغت «التجاعيد» على جباههم، وسادت ملامح «التذمر» على وجوههم؛ فأصبحوا في عداء مع الفرح، يظهرون بالملامح المتشددة التي كوَّنت لها عالمًا «فظ التعامل»، يثير الكآبة، وينثر الإحباط، ويمنع الاقتراب منه.
حاصرت أقفاص التشدد بداخلها مفاهيم «التجديد الفكري» و»التجدد المعرفي» في حياة الإنسان وسلوكه ومستقبله؛ لتجثم على «أنفاس» الحرية التي كفلها ديننا الإسلامي في كل اتجاهات الحياة؛ فأوجدت «العنف»، وكرست «البغضاء»، وأجازت «العداوة»؛ فكان حصاد التجربة «رمادًا» ملأ ساحات النقاش، وغيَّر الأرضية الخصبة الفطرية والموضوعية؛ فظهرت المثيرات في كل جانب تحت «لواء» التشدد، وخلف جيوشه الخفية والظاهرة، وثكناته «الفكرية» التي يديرها «معتوهون»، يرون أن العيش خارج تلك الأقفاص محرمًا أو مغيرًا للواقع أو مغايرًا للحياة، بتأليب من أنفسهم المريضة المحاطة بإطارات سوداوية غير قابلة للفهم، وغير متقبلة للتفاهم، وعقولهم الباطنة «المكتنزة» بحب الأنا وفرض السيطرة وتعليب الرؤى التي تصادر حرية الآخرين.
لذا فإن الشخص المتشدد مخالف للفطرة السوية، ومعارض للمنطق الإنساني، ومعاكس للسلوك البشري.. وسيمضي في «متاهاته» حتى يجد نفسه في «معزل» عن الآخرين، وفي عزلة عن الغير نظير سوءاته. وعلى المجتمع بأسره والقطاعات المعنية وقنوات التوجيه والمنابر أن تواجه التشدد بالتوعية والتثقيف والتحذير، وأن تكثف الندوات والمؤتمرات حول مكافحة التشدد بكل صوره، وأن توضَع في المناهج الدراسية أبواب وفصول، ترسم ثقافة جديدة للأجيال بلا تشدد، ودون تطرف في التعامل والأسلوب والسلوك، وكل مناحي الحياة.