د. حسن بن فهد الهويمل
شخصياتٌ، وأحداثٌ محفورة في الذاكرة، حتى لكأنها جزء من حياتي، لا أكاد أنشغل عنها، حتى أعود إليها. وجوانب من حيوات بعض الأناسي تكاد تطغى على سائر الجوانب الأخرى، وإن لم تكن هي الأهم.
«العقاد» بهرته شخصيات تاريخية، فوصفها بالعبقرية، ووظف كل إمكاناته لإبراز مواهبها التي خلدت ذكرها.
وصدمته شخصيات أخرى، فأمعن في السخرية منها، والحط من قدرها. نُوافقه على شيء، ونخالفه في أشياء، ولكننا نظل ما دمنا أحياء نحترم رأيه، ونكبر قدراته، ونشيد بشممه، وإبائه:-
[وَمَنْ ذَا الَّذي تُرْضَي سَجَايَاهُ كُلُّهَا ... كَفَى المَرْءَ نُبْلًا أَنْ تْعَدَّ مَعَايِبُه].
تعجبني إنسانية أبي بكر، وعزمات عمر، وطيبة عثمان، وشجاعة علي، ودهاء معاوية، وحيلة ابن العاص.
والدارسون، والمؤرخون لهؤلاء وأولئك وجدوا في تلك السجايا موارد لا تكدرها الدلاء. وعبر مراحل التاريخ تتكرس شخصيات بمنجزاتها، وإنسانياتها، وبطولاتها. تموت حسدًا، وتحيا أثرًا. وتشكل بآثارها منعطفًا تاريخيًا يغير مجرى الأحداث، تمامًا كالمحددين على رأس كل مائة سنة.
هناك أذكيا أزكيا، وأذكيا غير أزكيا، وعباقرة خبثاء، جندوا إمكاناتهم لاستعباد الإنسان، واستغلال خيرات المغلوبين، واستعذاب الإفساد في الأرض:- {وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ}.
فكان تاريخهم موعظة، وعبرة وَالسَّعِيدُ مَنْ وُعِظَ بِغَيْرِهِ. والخاسر من وعظ بنفسه، والأخسرون أعمالاً من لم تغنهم الآيات، والنذر، وما أكثر التافهين الغثائيين الذين يفسدون في الأرض، ولا يصلحون.
أراد [عمر ابن الخطاب] أن يضع تاريخًا للمسلمين، فتداول الرأي مع من حوله من صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكانت أمامهم أحداث متعددة، تحقق من خلالها عز الإسلام، والمسلمين، ولكنه رآها دون حدث الهجرة.
ولأنه [مُحَدَّثٌ] فقد هدته عبقريته بعد هداية الله له إلى حَدَثِ [الهجرة]، لما ينطوي عليه من معطيات لا تضارعها أيُّ معطيات أخرى، فاستقر على هذا.
وكل الذين كتبوا عن [ابن الخطاب] طنطنوا حول عبقرية الاختيار. وفي الحديث:- [لَقَدْ كَان فِيما قَبْلَكُمْ مِنَ الأُممِ نَاسٌ محدَّثونَ، فَإنْ يَكُ في أُمَّتي أَحَدٌ، فإنَّهُ عُمَرُ]، أي [ملهم]، أو يلقى في روعه، أو تكلمه الملائكة.
قلت إن شخصيات متقدمة، ومتأخرة. معاصرة، وعلى سدة الحكم ملأتني إعجابًا، وحبًا، وأخرى ملأتني إعجابًا، وإكبارًا. وشخصيات أكبرت فيها دهاءها، وعمق نظراتها، وما رضيت الكثير من فَرْيِها.
والتاريخ ملئ بالشخصيات الاستثنائية، والأحداث المهمة، وأحب شيء إلى نفسي [تاريخ الرجال] لأنه يكشف عن معادنهم، وعن أدوارهم في بناء الكيانات، وإنجاز المهمات، والتضحية من أجل القيم، والمبادئ، والأوطان، والإنسان.
ولكل مرحلة رجالها، وأحداثها، ولكل أمة عظماؤها. ومن واجب الأجيال أن تنقب في تاريخها الحديث، والقديم، عن شخصياتها المتميزة، وأحداثها المهمة، لتكون قدوة، وفخرًا:-
[أُولَئِكَ آبَائِي فَجِئْنِي بِمِثْلِهِم ... إذا جَمَعْتَنَا يَاجَرِيرُ المَجَامِعُ]
فالإنسان من دون تاريخ ريشة في مهب الريح، ومن دون ماضٍ شجرة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار.
والمدنيَّةُ المعاصرة حملت الدول على اتخاذ أعياد، وأيام، ومناسبات، تباهي بها الأمم، وتعيد لناشئتهاا أمجادها، وأبطالها، لحملهم على الاقتداء، والمحافظة على المنجزات، وتقوية الأواصر بين ماضيهم، وحاضرهم.
لقد تبدت لي وأنا أعمل على إنجاز كتاب [النزعة الإسلامية في الشعر السعودي]، وكتاب [الملك عبدالعزيز في عيون شعراء أم القرى] قصائدُ تتحدث عن [ذكرى الجلوس] أي جلوس الملك عبدالعزيز على سدة الحكم، وما عهدوه من منجزات تاريخية.
وكانت هناك قصائد تُحْيي هذه الذكرى، وتحمد الله على نعمه الوارفة الظلال. فالملك [عبدالعزيز] بمنجزاته أعاد لأرض المقدسات، ولشبه الجزيرة العربية أمنها واستقرارها. وحين فَجَّرَ الله له كنوز الأرض لم يبخل بها على نفسه، وشعبه، وأمته. لقد بسط الرزق للمواطنين، ومكنهم من خيرات بلادهم، فامتدت أيديهم في ظل الأمن، والاستقرار إلى صحرائهم يحرثون، ويزرعون، ويبنون، ويجلبون الأرزاق من كل الآفاق. محققًا قول الله تعالى:- {يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ}.
وَتَذَكَّرُ مثل هذه المناسبات السعيدة صورة من صور الشكر، والوفاء، والعرفان، والحمل على الاقتداء:- [وَمَنْ يُشَابِه أبه فما ظلم].
ثم إن تذَكُّرَها، والفرح بها، والإشادة بمن أجراها الله على يديه لونٌ من ألوان الشكر المندوب إليه، ولا يعرف الفضل لذويه إلا ذوو الفضل.
[اليوم الوطني] لم يكن شعارًا فارغًا، ولا حدثًا عابرًا. إنه إنجاز له ما بعده، وكل ما نحن عليه من أمن، واستقرار، ورخاء، وتطور في كل وجوه الحياة. إن هو إلا بعض ملامحه. وحق الأجيال التي لم تشهد الحدث أن تيسر لهم معرفته، وأن يُيَسِّرَ تصور ظروفه، والتعرف على صُنَّاعه، ومعاناتهم، وتضحياتهم، فذلك كله جزء من تاريخهم. وما هم عليه من منجزات تتوق لمثلها الشعوب جزء من منجز هذا اليوم المجيد.
فما هو [اليوم الوطني] إنه اليوم الأغر الذي أُعْلِنَ فيه اسم [المملكة العربية السعودية]، وذلك في مطلع النصف الثاني من القرن الرابع عشر الهجري. هدي إليه نجل المؤسس [فيصل بن عبدالعزيز].
لقد كان مؤتمر الإعلان حدًا فاصلاً بين مرحلة التكون، ومرحلة البناء. وهو حد حاسم بين معاناة تكوين هذا الكيان، والاتجاه لبنائه بناءً: حضاريًا، ومدنيًا.
مهندس هذه المهمات هو الملك المؤسس الذي أتم تكوين الكيان على مدى ثلاثة عقود، تبدت من خلالها عبقريته، وتجلت قدراته الذاتية، وإمكاناته المعرفية في عوالم السياسة المعقدة.
ذلكم هو [اليوم الوطني] وهذا إنسانه. رحم الله المؤسس، ومن خَلَفَه من أبنائه، وأيد الله بنصره، وتمكينه قائد المسيرة الميمونة، ومكن شعب [المملكة العربية السعودية] من وعي الحاضر، وملابساته، والعمل على تعزيز اللحمة الوطنية. وأعان الجميع على الشكر لمسدي هذه النعم.
في هذه الذكرى العزيزة علينا أن نؤكد [الولاء] في زمن الخروج على الجماعة، لنجد [الأمن، والإيمان] في زمن الخوف، والعصيان.