عبد الله الصالح الرشيد
من الأمور الثابتة الراسخة في سجل تاريخ بلادنا الحديث، ومن الحقائق الناصعة المعروفة في حياتنا المعاصرة والتي لا يمكن إغفالها أو التمويه فيها أو التشكيك بصدقها أن هذه البلاد العامرة المزدهرة، وأعني بها هذه المملكة الفتية التي تمثل القلب النابض للعالم الإسلامي قاطبة كانت قبل توحيدها على يد الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن -طيب الله ثراه- وأحسن مأواه ترسف على نطاق واسع في جهل عميق وظلام دامس وفقر مدقع، وكانت الخرافات والخزعبلات وجميع أسباب التخلف تكاد تعشعش وتجتمع في كثير من مناطقها الشاسعة إلى غير ذلك من المظاهر السيئة كالحروب القبلية والتنافر والعداوات المستفحلة والنعرات والحزازات.. ولذا كان فتح الرياض على يد الإمام الموحد قبل مائة عام ونيف فأل خير وطالع سعد وعلامة استبشار ومصدر طمأنينة وأمان لهذه الأمة التائهة الممزقة، وإشراقة عهد جديد لهذه البلدان المتفرقة التي كانت في هذه الصحراء الواسعة والأصقاع المتباعدة عبارة عن جزر متنافرة عماد حياة أهلها قائم على الأعمال البدائية والرعوية والزراعية المحدودة، والتي لا تكاد تسد الرمق أو تطرد شبح الحاجة والعوز.. وبالتأكيد فإن هناك من لا يصدق ذلك أو على الأقل يعتقد فيما ذكرنا نوعاً من المبالغة - وخاصة من أجيال الاستقرار والازدهار.
وقد يكون لهم بعض العذر لأنه ليس من رأى كمن سمع، أو كما قال الشاعر:
لا يعرف الشوق إلا من يكابده
ولا الصبابة إلا من يعانيها
ولولا إننا مع ما سمعناه من أفواه الرواة ومن قصص الآباء والأجداد رأينا بعضاً منه بأنفسنا في بواكير حياتنا من أفول شبح المجاعة واندحار فلول الجهل بسبب كتائب العلم والتعليم ورحيل كابوس الخوف الذي كان يربض ويخيم على كل شبر وزاوية وانحسار طوفان الأمراض الفتاكة القاتلة الطارئة والمستوطنة.. لولا ذلك كله لربما تسرب إلينا بعض الشك أو التشكيك لأنه فعلاً لا يعرف قيمة رغد العيش وهنائه إلا من مسته شفرة الجوع القاطعة التي لا ترحم، ولا يؤمن بقيمة الأمن إلا من عاصر حياة النهب والسلب والحروب القبلية والإقليمية المستعرة، ولا يدرك قيمة الصحة والعافية إلا من رأى بعينيه فقد الأحباب والأقارب، وهم يوارون الثرى إلى مثواهم الأخير جماعات ووحداناً بسبب أمراض وعلل لا يعرف كنهها وليس له أمامها حول ولا حيلة بسبب الفقر وقلة ذات اليد ناهيك بندرة العلاج أو توفر سبل الوقاية منها حتى الكفن يحسب للحصول عليه ألف حساب، وكانوا يوارون الثرى أحيانا شبه عراة.. أما الجوع وتبعاته ومصائبه فحدث عن ذلك ولا حرج فقد كان الكثير من الناس يطحنون العظام ويسفونها ويلتهمون الجلود البالية بسبب العوز والحاجة والاضطرار.
وكان البعض لا يتورع من أكل الأعشاب أيام الربيع مع الأنعام بمشاركتها ما يتوفر لها من أوراق خضراء في المزارع الشحيحة. ولقد سمعنا من شهود الحال أو قرأنا عن الكثير من هذه الصور القاتمة البائسة والتي أتينا على بعضها باختصار للعظة والاعتبار، وليت أجيالنا السادرة في بحبوحة النعيم والرفاهية تأخذ العبرة وتتعظ من هذه القصص والفصول عن حياة الآباء والأجداد، وليت وهذا هو المهم يدرك بعض جيران المملكة، وكذلك إخوتها في العقيدة أو اللغة في البلدان الأخرى، كيف كانوا ينعمون في بحبوحة العيش الرغيد وصنوف الخيرات بين الأنهار والأراضي الخصبة وسكان هذه المملكة من حولهم تائهون بهذه الصحراء القاحلة فراشهم الجوع ولحافهم الخوف ونديمهم البؤس صابرون محتسبون بقوة الإيمان والعزة والكرامة حتى أفاء الله عليهم بخيرات من باطن الأرض -{يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ}-. ومع ذلك، ورغم النكران والإهمال الذي كانوا يلاقونه منهم فقد فتحوا مع قيادتهم الحكيمة الحليمة الأبواب لإخوتهم ليشاركوهم هذه النعمة التي أفاء الله بها على بلادنا مع استمرار المساهمة الفعالة والدائمة في تنمية وتطوير معظم البلدان الشقيقة والصديقة القريبة والبعيدة.. وهذا لاشك مصدر فخر واعتزاز وأكبر دليل وبرهان على شكيمة هذه الأمة وشهامتها وأصالتها.
وفي الختام، نرجو من البارئ عز وجل أن يديم على هذه البلاد وقيادتها وشعبها الأمن والازدهار في ظل دستورنا الرباني الخالد.. والله ولي التوفيق.