لأستسهلنَّ الصعب أو أدرك المنى
فما انقادت الآمال إلا لصابر
من نعم الله جل ثناؤه أن وهب الإمام عبد الرحمن الفيصل آل سعود مولوداً في ليلة عيد الأضحى 10 من ذي الحجة سنة 1299هـ قُبيل الفجر الموافق 21 أكتوبر سنة 1880م، وقيل وهو الأرجح عام 1293هـ ففرح به كثيراً سمَّاه (عبد العزيز) أملاً أن يقر الله به دينه، ويعلي كلمته، وعندما بلغ السابعة من عمره عهد والده إلى فقيه من فقهاء الخرج اسمه القاضي عبد الله الخرجي أن يعلمه القرآن ليضيء صدره، ويملأ جوانب نفسه، ولتقوى الصلة بينه وبين مولاه، فلم تمضِ على ذلك سنوات قلائل حتى ختم القرآن الكريم، ثم عهد إلى فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف حفيد الشيخ محمد بن عبد الوهاب أن يعلمه علوم الدين ليتفقه فيها «من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين « وقد تم له ذلك بحمد الله وفضله، وكان والدي - رحمه الله - العالم الجليل الزاهد عبد الرحمن بن محمد الخريف المولود عام 1289هـ أحد من تلقى مبادئ العلم على فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف، وهذا مما أبهج النفس - وأفرحنا لاحقاً -، وكان الإمام عبد الرحمن الفيصل - رحمه الله - يطلبه ليسمعه من حلاوة القرآن الكريم وهو يتلوه لحسن صوته مجوداً ومرتلاً..، وذلك أثناء قدومه من بلده - حريملاء - لتلقي العلم على عدد من المشايخ الفضلاء، أمثال الشيخ حمد بن فارس، والشيخ سعد بن عتيق.. الخ - وفي عام 1347هـ عين الملك عبد العزيز - طيب الله ثراه - والدنا قاضياً في «قرية العليا» الواقعة في الجانب الشمالي الشرقي من المملكة بعد إقناعه رغم بعد المسافة ووعورة الطرق، فالملك عبد العزيز - رحمه الله - حينما شعر أن البلاد بحاجة إلى قضاة وعلماء ومعلمين بادر بإيجاد مدرسة تعنى بالعلوم الشرعية واللغة العربية: سمَّاها (دار التوحيد) ويكون مقرها مدينة الطائف لاعتدال أجوائها ولإبعاد الطلاب عن مشاغل أهليهم عام 1364هـ، وقد وكل بالإشراف عليها الشيخ العلامة محمد بن عبد العزيز بن مانع - رحمه الله - مدير المعارف العامة - آنذاك - وجلب لها نخبة مختارة من فطاحل علماء الأزهر نفع الله بها، كما أمر بفتح أول مدرسة ابتدائية بالرياض سميت (المدرسة التذكارية ) 64 - 1365هـ ومثلها مدرسة للأيتام بحي المربع - تغمده المولى بواسع رحمته - وهذا يدل على حرصه مبكراً على تنوير أبناء شعبه في بلدانهم، وقراهم وهجرهم، بتعيين عدد من القضاة والعلماء والمرشدين وأئمة للمساجد، رغم قلة المؤهلين في تلك الأزمان الفارطة، لتبصير العوام بأموردينهم، وحثهم على الاستقامة وحفظ القرآن الكريم وتلاوته، ومحاربة الجهل بتوحيد الله وترسيخ السنة المحمدية المطهرة في نفوسهم، محذرين عن الغلو والتطرف، وحثهم على التآلف وحسن التعامل، والتعايش مع الغير، والاهتمام بصحتهم وأمنهم، وذلك بعد الفتوحات المتعددة وتوطيد أركان المملكة بجهاتها الأربعة وتوحيدها ، والاهتمام بالفقراء والمحتاجين من أبناء شعبه، ولقد ترك أثراً طيباً وذكرا حسناً في قلوب أبناء وطنه، وجيرانه من الدول الصديقة قبل رحيله عن الدنيا إلى جوار ربه، إلى دار النعيم المقيم بفضل مولاه ومنّه، فكل حياته كفاح ولمّ شمل أبناء شعبه المتباعد الأطراف حتى تحقق ما يريده ويرومه من أمن، ورخاء وراحة بال، - تغمده المولى بواسع رحمته - وقد انسلت روحه من جسده الطاهر - بعد معاناة مع المرض - في الحوية بمدينة الطائف، وذلك ضحى يوم الاثنين الثاني من شهر ربيع الأول عام 1373هـ بعد حياة طويلة حافلة بالأعمال الجليلة والسيرة الحميدة التي بقيت ذكرى خالدة على تعاقب السنين، ثم حُمل جثمان الملك عبد العزيز إلى مدينة الرياض على متن طائرة خاصة، بمرافقة صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بن عبد العزيز، وبعض أصحاب السمو الأمراء، فأُديتْ الصلاة عليه بعد صلاة العصر.. في مصلى العيد الواقع على مقربة من مقبرة « العود» وقد أديتُ الصلاة عليه مع تلك الجموع الكثيفة، ثم حمل على أعناق الرجال حتى ملتقى الراحلين، فأنزلوه في جدثه، ولك أيها القارئ أن تتصور حال من حضر من أنجاله الكرام، وهم يتابعون جثمانه الطاهر بنظرات ملؤها الأسى والحزن العميق، حتى غاب عنهم تحت طيات الثرى، ولسان حال كل واحد منهم في تلك اللحظات لحظات الوداع الأبدي القاسية على قلوبهم يردد في خاطره معنى هذا البيت:
يوم الوداع وهل أبقيت في خلدي
إلا الأسى في حنايا القلب يستعرُ
تغمده المولى بواسع رحمته، وكنت من بين الواقفين على مقربة من حافة قبره، وقد شاهدت صاحب السمو الأمير سعود بن محمد الكبير ابن عم الملك عبد العزيز، الذي عرفته من بين الحضور - آنذاك - وأنا ما زلت طالباً بالسنة الثالثة في معهد الرياض العلمي، وقد ابتلت لحيته بوابل من الدموع الحرى حزناً وتحسرا على رحيل ذاك الرجل البطل الذي فُجع الشعب السعودي برحيله، الذي قل أن تجود الأيام بمثله، والعزاء في ذلك أنه خلف أنجالاً من ملوك مخلصين وأمراء تعاقبوا على قيادة هذا الوطن الحبيب إلى قلوبنا - رحم الله من غاب منهم رحمة واسعة - وأسعد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، وعضده الأيمن ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، وجميع المخلصين من أفراد الشعب كافة:
إن العظيم وإن توسد في الثرى
يبقى على مر الدُّهور مَهيباً
وقد استقيت بعض هذه المعلومات من (كتاب الإمام العادل) وضع السيد عبد الحميد الخطيب، الطبعة الأولى عام 1370هـ الذي وزع عام 1371هـ على طلاب دار التوحيد بالطائف كمطالعة إضافية تثقيفية لنا مَعْشر الطلاب..، ولا زلتُ محتفظاً بالنسخة الأصلية لكلا الجزئين الأول والثاني، وقد سبق أن استعارتهما مني دارة الملك عبد العزيز للاستفادة منهما للحديث عن المئوية، ثم أُعيدا إليّ مع الشكر للجميع.
وقد سحبنا هذا المقال المبارك عن الحديث عن اليوم الوطني وذكرى توحيد المملكة العربية السعودية على يد جلالة الملك عبد العزيز - طيب الله ثراه - وسنضعه في مقدمة كتابنا الجزء الخامس من سلسلة «فقد ورثاء» - بإذن الله - ونكتفي بهذا القدر خشية الإطالة، مُباركاً بحلول العام الجديد 1440هـ لجميع المواطنين والمقيمين وجميع الأسرة المالكة الكريمة، وعلى رأسها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، وولي عهده الأمين الأمير محمد بن سلمان، راجين أن يكون عام خير وبركة في ظل حكومتنا الحبيبة إلى قلوبنا مردداً هذا البيت:
فعش للورى وأسلم سعيداً مُهنئاً
فحظ الورى في أن تعيش وتسلما
** **
عبدالعزيز بن عبدالرحمن الخريف - حريملاء